في أيامنا هذه أصبح صناع القرار، في بلد بعد الآخر، مهووسين بضرورة تعزيز تدريس المواد العلمية. ولكن ماذا عن العلوم الإنسانية - كل تلك الفروع مثل الأدب، والتاريخ، واللغات، وما إلى ذلك - التي تتسم بعدم وضوح ارتباطها بالقدرة على التنافس على الصعيد الاقتصادي؟
إننا لا نحتاج إلى العلوم الإنسانية إلا بقدر ارتباطنا بفكرة الإنسانية. وإذا ما أصبحت العلوم الإنسانية تشكل فرعاً عتيقاً من العلم فربما يعني ذلك أن الإنسانية قد خسرت مكانتها.
لا أعني بذلك أننا أصبحنا (أقل إنسانية) أو أقرب إلى (التوحش)؛ فنحن نعيش في زمن حيث أصبحت المشاغل الإنسانية، مثل (الحقوق)، ممتدة لكي تشمل الحيوانات، إن لم يكن الطبيعة ككل. والمشكلة هنا تكمن في الجزم بما إذا كان الانتماء إلى الإنسانية يحمل في طياته أي قدر من التميز الذي يجعلنا نسعى بصورة خاصة إلى الحصول على تعليم عال. أعتقد أن الإجابة هي (أجل) في كل الأحوال.
اليوم أصبح من قبيل التشبث بالماضي العتيق أن نصف الغرض من الجامعة بأنه (تهذيب) للناس، وكأنها مدرسة مجيدة لصقل الناس وإضفاء اللمسات الأخيرة عليهم. إلا أننا حين نستبعد تاريخ الجامعة النخبوي يظل لدينا عنصر قوي من الصدق في هذه الفكرة، وبصورة خاصة حين نطبقها على العلوم الإنسانية. ورغم أننا الآن ننظر إلى الفروع الأكاديمية، بما في ذلك العلوم الإنسانية، باعتبارها فروعاً (قائمة على البحث)، إلا أن هذا يشكل استخفافاً بالدور التاريخي الذي لعبته الجامعة في تحويل إنسان العصر الحديث المنتمي إلى فصيلة الرئيسيات إلى مخلوق تمتد اهتماماته وطموحاته وإنجازاته إلى ما هو أبعد من مجرد التكاثر الجنسي الناجح.
كان ما أطلق عليه في الأساس (الآداب الليبرالية) سبباً في توفير المهارات اللازمة لهذا التحول. فمن خلال الخضوع لنظام مشترك من التحدث، والكتابة، والقراءة، والملاحظة، والإحصاء، اكتسب (القرد المنتصب) القدرة على التفكير والمجادلة علناً. ولقد مكّن ذلك الرجل، ثم المرأة، من الإمساك بزمام السلطة بصرف النظر عن الأصل أو المنشأ؛ الأمر الذي أدى إلى تكون شبكات بل ومؤسسات تتقاطع الفوائد المترتبة عليها عميقاً مع خلفية الأصل أو النشأة. ونحن ننسى بسهولة أن مجتمعاتنا المختلطة متغايرة الخواص والعناصر تعتمد في أقل تقدير على نسخة ضعيفة من هذا التدريب للحفاظ على النظام السياسي والاقتصادي.
حين نشأت الجامعة كانت العلوم الإنسانية في مركز اهتمامها، إلا أنها أصبحت اليوم في سعي دائم للحاق بالعلوم الطبيعية. وهذا يرجع بشكل كبير إلى أن العلوم الطبيعية كانت حريصة كل الحرص على محاكاة معايير الإنتاجية المرتبطة بالصناعة. وكانت النتيجة نشوء عقلية (الأكبر هو الأفضل)، التي تؤكد بصورة متزايدة على المطبوعات، وبراءات الاختراع، وإشادات التفوق. إلا أن هذه الأجندة تميل رغم ذلك إلى ملاحقة أهدافها دون اهتمام كبير بالكيفية التي تتغذى بها هذه التدابير على شيء أعظم أهمية على الصعيدين الاجتماعي والثقافي، بل وحتى الصعيد الاقتصادي.
كان مؤشر الإشادة العلمية (Science Citation Index)، الذي صُمّم في الأساس لمساعدة الباحثين في الاطلاع على الميول الإجمالية في الفروع العلمية المتزايدة التعقيد، بمثابة عون كبير فيما يتصل بقياس الإنتاجية. إلا أن هذه الميول أصبحت الآن في تحول روتيني مستمر إلى قواعد يمكن من خلالها الحكم على أداء جامعة بعينها، أو قسم في جامعة، أو حتى الباحثين كأفراد. وبهذا اختلط الأمر بين ما يمكن قياسه بسهولة وبين ما يستحق القياس بالفعل.
ولكن الأمر الأشد خطورة هنا أن هذا الخط في التفكير يهمل القدرة التحولية الواضحة للمعرفة التي تتخذها العلوم الإنسانية كتخصص لها؛ إذ إن التقييم الدقيق لهذه القدرة يتطلب النظر إلى تأثيراتها المتضاعفة. وكما كانت الحال مع فكرة جون ماينارد كينيز في أن العائدات على الاستثمارات العامة لا بد أن تقاس إلى النتائج بعيدة الأمد للاستثمارات الأخرى التي تحفزها الاستثمارات العامة في كافة القطاعات الاقتصادية والمجتمعية، فكذلك لا بد أن تكون النظرة إلى المعرفة التي تتولد من خلال دراسة العلوم الإنسانية.
إلا أن هذه الفكرة ضاعت اليوم بعد أن أصبحت الجامعات خاضعة لحساب التكاليف، الذي يتعامل مع ما يحدث بين المعلم والطالب في الفصل وكأنه متماثل مع ما يحدث بين المنتج والمستهلك في السوق. وفي كل من الحالين يفترض أن قيمة المنفعة المتبادلة تتحدد بعد تلقيها مباشرة تبعاً لمدى إرضائها لحاجة مباشرة. وليس من المدهش أن نرى الطلاب وهم يقيمون درجاتهم استناداً إلى الوظيفة التي قد تسمح لهم بالحصول عليها، وليس إلى الحياة التي تعدهم من أجلها على مدار نصف القرن القادم من أعمارهم.
إنه لمن العسير اليوم، حيث بلغت دولة الرفاهية أوجها، أن نصدق أن الجامعات كانت ذات يوم أكثر ميلاً إلى النخبوية وأكثر اعتماداً على التمويل العام من حالها اليوم. فآنذاك، كان من المفترض أن الفوائد المترتبة على التدريب الأكاديمي لا تقتصر على هؤلاء الذين مارسوا ذلك التدريب، بل تمتد أيضاً، وفي المقام الأول من الأهمية، إلى بقية السكان الذين تتأثر حياتهم إيجاباً وبألوان متباينة من خلال تطبيق الآداب والعلوم.
لا شك أن ذلك النوع من تخصيب حياة الناس اشتمل على بعض الفوائد العملية مثل الاكتشافات الطبية وتقنيات توفير العمل والجهد. بيد أن الفوائد المترتبة على العلوم الإنسانية لم تكن أقل تأثيراً أو دواماً، رغم أن طبيعتها الدقيقة تجعل تعقبها أكثر صعوبة. وهنا في إعادة لصياغة رأي كينيز في هذا السياق، أزعم أننا كلما شغلنا المذياع أو التلفاز، أو قرأنا صحيفة أو رواية، أو شاهدنا فيلماً، فإننا ندين بالفضل في هذا إلى واحد أو أكثر من علماء الإنسانيات الراحلين الذين وضعوا الشروط التي من خلالها نرى العالم.
أثناء تاريخها الطويل باعتبارها الشكل الأساسي للمعرفة الأكاديمية، كانت العلوم الإنسانية كثيراً ما تتعرض للانتقاد بسبب شخصيتها المتمردة. والحقيقة أن تساؤل البعض اليوم عما إذا كان للعلوم الإنسانية أي تأثير على الإطلاق لا يعكس إلا الأسلوب الفج قصير النظر في قياس قيمة المعرفة الأكاديمية والحكم عليها اليوم. وربما تليق هذه النظرة بمخلوقات تتسم حياتها (بالعزلة والفقر والقذارة والوحشية والقِصَر)، طبقاً لتعبير توماس هوبس في وصفه لحال الطبيعة. إلا أنها تشكل ظلماً فادحاً بالنسبة إلى هؤلاء الذين ما زالوا يطمحون إلى الإنسانية الناضجة.
أستاذ علم الاجتماع بجامعة وارويك
خاص ب(الجزيرة)