أبدعت ثقافة العرب المعاصرة في إنتاج المصطلحات التي تتميز بقدراتها السحرية على حجب الواقع، و على التمويه على ما يحدث في المجتمع من فساد واحتيال واستغلال للنفوذ
ومن أبرز هذه المصطلحات ما يطلق عليه شعبياً ب(الواسطة)، وهي قناة يمر منها البعض إلى أصحاب القرار للحصول على استثناء أو إلى أحياناً إلى تعديل وضع قائم..
قد يجادل بعضهم أنها قد تكون إحدى وسائل أغراض الخير واستيفاء الحقوق، وهي مقولة غير صحيحة إذا بحثنا في جذور انتشار هذه الثقافة، وأدركنا أنها أحد وجوه بحث الأفراد عن مصالحهم وإن خالفت النظام وقانون تكافؤ الفرص، لذا تم تمليحها إن صح التعبير من خلال تبرير هذه الوسيلة على أنها أحد وجوه الشفاعة، وهو مصطلح ديني خصه الله سبحانه وتعالى برسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم في يوم الحساب..
أحياناً أجد صعوبة في فهم فلسفة الربط بين الواسطة الدنيوية وبين الشفاعة الأخروية.. وربما مهّد هذا الربط غير المباشر إلى تعميم هذا المصطلح ليشمل عدداً لا حصر لها من القرارات والتدخلات التي تحمل أحياناً الخير، وفي أحيان أخرى الشر والفساد بكل وجوهه المتعددة.. والأخطر من ذلك تشريع موقف في غاية السلبية لأفراد المجتمع ضد القانون والمساواة في الحقوق والواجبات.
من المصطلحات الشائعة في فصل ما جاء في الفساد وجوهه المتغيرة، مصطلح (المحسوبية)، وهي آلية متعارف عليها في المجتمعات العربية لخدمة أصحاب النفوذ في المجتمع، وأحسب أن هذه المفردة لها خصوصية عربية، و يجب أن تحصل على براءة اكتشاف يتم توثيقها في محافل الإبداع البشري في ظاهرة الفساد..
تتصف منتجات هذه الآلية الفريدة بقدرتها السحرية على قتل الطموح في حقول العمل، ثم تقسيمه إلى ميدان للأسياد وهامش للعبيد،.. الأسياد هم أولئك الأحرار أو المتحررون من عبودية النظام وقوانينه الرتيبة، والعبيد هم الذين يخضعون قسراً لنظام العمل وبنوده الصارمة.. والشخصية المحسوبة على شخصية متنفذة تتسم بالتحرر من الروتين الوظيفي، ولا تستخدم عادة الأروقة العامة أو الطرق التي تم تقنينها لتنظيم الفئة غير المحسوبة في المجتمع.. الفئة التي شقت طريقها في التعليم والعمل من الألف إلى الياء بدون أن يكونوا على كشف حساب أحد أصحاب القرار والنفوذ في المجتمع..
الشخصية المحسوبة يأتيها قدرها في دنيا العمل بمختلف اتجاهاته من فوق أو من الأعلى، والفوقية والعلو والسمو يحضون بقدسية في ثقافتنا، فالفوقية تعني النفوذ والقوة، والجدير بالذكر أن هذه المقولة كانت أحد وجوه الخلاف عندما تم استخدام الدين في الصراعات السياسية في القرون الأولى في المجتمع، وعندما روجت المعتزلة المبتدعة لمقولة أن الله سبحانه وتعالى متواجد في كل اتجاه، وهي مقولة فيها تضاد مع عقيدة السلف والتي من شروط اكتمال الإيمان أن تصدق أن الله سبحانه وتعالى فوق السماوات وفي أقصى درجات العلو.. وهذه صورة أخرى تم الربط فيها مفهوم دنيوي بأصل من أصول العقيدة السمحة، إذ تم ربط ذلك الذي يأتيه رزقه من قرار فوقي واستثنائي مترفعاً عن سنن العمل وقوانينها الميدانية.. بعبد الله عز وجل الذي يأتيه رزقه من السماء.. بلا حساب.
تتصف الشخصية المستوفية لشروط المحسوبية بأنها فوق القانون والنظام، وأنها كالقدر الذي يتم تقديره من أعلى، ولا يشارك في صناعته أولئك الذين يقطنون الدرجات الدنيا من النظام الاجتماعي.. لكن يتم تهيئته بقانون الاستثناء ونظام الشفاعة العلوية، وعادة لا تكترث هذه الفوقية بحجم التلف الذي يحدث بسبب هذا التجاوز، ولا تأبه للتبعات المتوقعة في ميدان العمل وبالتأثيرات السلبية التي تقتل الطموح وتؤد الإنتاجية في مهدها..
يأتي الإعجاز العربي في قدرة هذه الثقافة على صرف النظر عن ثقافة الفساد، وإلى التخفيف من وقع مفردة (فساد) والتي تتسم ببعدها القرآني وبحرمتها الشديدة في الدين الحنيف، مما هيأ للفساد لأن يصبح واقعاً لا يمكن تجاوزه بقرار أو بنصائح من أعلى المنابر، ولأن ينتشر في المجتمع من خلال مصطلحات تبدو حميدة، لكنها في واقع الأمر مثل السرطان الذي ينخر الجسد ببطء.
يؤدي الفساد إلى انهيار القيم الأخلاقية القائمة على الصدق والأمانة والنزاهة، ويقود إلى انتشار ثقافة عدم المسؤولية والنوايا السلبية لدى الأفراد في المجتمع، وهو ما يمهد إلى اتساع دائرة الجريمة والتمرد على السلطة، وإلى طغيان مشاعر الحقد ضد النظام الاجتماعي القائم..
ستغدو مهمة اجتثاث سبل الفساد ضرباً من ضروب الخيال إذا تم التعامل معها من خلال ثقافة النصائح فقط، والتي لن تكون مجدية إلا إذا صاحبها تنظيم وآليات لمكافحته من خلال سنِّ القوانين الصارمة والمخولة لمراقبة تصرفات وقرارات الأفراد مع بنود النظام ومنح المجتمع حق محاسبتهم لدى الجهات القضائية المختصة.. سيكون من الاستحالة تطبيق هذه الأنظمة ما لم يتم إقرار قانون يمنع التدخلات الفوقية من أجل تمرير المصالح الشخصية، وذلك من أجل احترام استقلال أجواء القضاء وميادين العمل ونفسيات العاملين فيه.. ثم قطع الطريق على أصحاب النفوس المريضة من بعض أصحاب القضاء والقرار الذين يجد بعضهم في الاستجابة لهذه التدخلات أسرع الطرق وأسهلها للإثراء السريع.