الأسرة هي المحضن الرئيس لتربية الأبناء، ومنها تنطلق الخطوات الأولى في سبيل إعمار البلاد وتنميتها، فالعقول التي تبدع فكراً، والأيدي التي ترسمه واقعاً في كل مجتمع، إنما هي وليدة الأسر المباركة فيه، وكلما أدركت الأسرة دورها الحقيقي في استقرار البلاد، وتنميتها المستدامة، كانت فاعلة ومؤثرة بصورة بناءة في تقدم المجتمع.. وصدق القائل: |
وينشأ ناشئ الفتيان فينا |
على ما كان عوده أبوه |
ومن المهم جداً أن تأخذ الأسرة في منهجيتها التربوية بالنظرية الشمولية للتربية، فلا يكفي أن تبذل جهدها ليتفوق الابن دراسياً وإن ساءت أخلاقه، أو تركز على أداء الفروض الدينية مع إهمال جانب التعامل مع الآخرين، أو أن تكون يد النفع قاصرة على الأسرة نفسها لا تمتد للآخرين، لأن ذلك يولد شخصية ناقصة المبادئ، مهزوزة القيم. |
وليس ثمة أسرة لا تبتلى بشيء من المحن، وينبغي لرب الأسرة أن لا يسعَ عند حدوث المحن إلى حلها فحسب، بل عليه أن يربي أبناءه ليتعلموا كيفية مواجهة الأزمات، والتعامل الأمثل مع تبعاتها، ويناقش معهم جزئيات المشكلة والآثار الإيجابية المتخذة كحلول لها، ليتعلموا مع مرور الوقت أن يكونوا صامدين، ذوو أرواح لا تعرف اليأس، ولا تستسلم للمزايدة على المبادئ عند حدوث الأزمات الفردية أو العامة. |
ومثلما يكون للأب دور عام في أسرته، لابد أن يكون هناك جهد خاص مع أي ابن تظهر منه بوادر التخلف عن ركب الأسرة في نهجها المستقيم، ولا يدع عاطفته الأبوية تتغاضى عن أخطاء الابن حتى تكبر، ويصبح في غير مقدوره علاجها في إطار الأسرة، حتى إذا خرجت المشكلة لمؤسسات المجتمع العام تحسر وندم على تفريطه، حين لا يكون له دور في التعامل مع وضع ابنه الذي أصبح جزءاً من مشكلة عامة في إطار المجتمع. |
كما يجب تربية الابن مع مراعاة المصلحة العامة للأسرة عند تعارضها مع مصلحة فردية له، وأن تنأى به عن الأنانية والنرجسية، فإن من تربى على هذا النهج سيراعي مصلحة الوطن عند نظرته في مصلحة فردية، كما أن الأمر الذي أرى أنه أكثر أهمية في هذا السياق، أن يربى الابن على العدالة في الخصومة، فعند حدوث خلاف بينه وبين أي كان لابد أن يكون تعامله مع الموقف وفق حدود العدل والحكمة وبعد النظر، وعدم الخروج به إلى مشكلة أكبر، والبحث عن الإضرار بالطرف الآخر بأكبر قدر ممكن، حتى ولو تجاوز هذا الضرر كثيراً ما بدر منه، وأن يتم تعويده على الفطنة عند التعامل مع من يريد أن يستفزه ليقع في أخطاء تحسب عليه، بحيث ينظر إلى هذا الاستفزاز كمبرر له ليقع في أخطاء جسام، لا يمكن أن تقبل كردة فعل لما واجهه. |
وفي كل مجتمع يوجد للأسف من يستغل بعض الظواهر المعتلة فيه لتكون منطلقاً لتمرير أفكاره البالية، أو ترسيخها في المجتمع، ومحاربة الفضيلة تحت مظلة الحرب على الأفكار الهدامة، بهذا يتولد المزيد من التجاذب بين الطرفين، وعلى الأسر أن تكون واعية لمثل هذه المواقف، بحيث تبين للابن أن وجود حالات نشاز، وإن أتيحت لها الفرص لتظهر ويعلو صوتها، لا يكون لصوتها صدى، إلا إذا أعطي لها أكبر من حجمها في التناول والخصومة، خاصة إن كانت في مجتمع تسوده الفضيلة، وتغلب عليه المحافظة. |
لذا يتوجب أن نربي أبناءنا لتعلمهم الحيطة من أن يستجروا لمواقف صعبة ليست في صالحهم، ولا هي من أدوارهم، كما لا يخفى أهمية أن يتعلم الأبناء جميعاً أن دور الأب هو للأب فقط ما لم يفوضه لأحد من أبنائه لأي سبب كان، فإن الافتئات على دور الأب، والتعود عليه، سيؤول بالابن على الافتئات على دور ولي الأمر، أو من دونه من أصحاب الولايات، ليتولى التعامل مع الظواهر والمواقف من وجهة نظر شخصية، وفي الأولى إضاعة للأسرة، وفي الأخرى تقويض لأسس الاستقرار في المجتمع. |
وينبغي للأب في حواره مع الأبناء ن يكون هادئاً، ومظهراً لهم الحنان، دون أن يفقد هيبته التي لابد من المحافظة عليها، كما ينبغي أن يذكر الابن المجادل الذي يصر على صحة موقفه، بالمواقف السابقة التي كان أيضاً مصراً على صحة موقفه، ثم يتبين له لاحقاً أنه مخطئ، فهذا يؤصل فيه التثبت والسماع للآخرين، وعدم التعجل في اتخاذ المواقف التي قد يقع في سوء تقديرها. |
وفي الختام تبقى الهداية من الله، ولابد من الدعاء للأبناء بالصلاح والاستقامة، ومحبة الخير للآخرين. |
* خبير اجتماعي متقاعد |
الأمين العام لجائزة الشيخ صالح بن سليمان العُمري للتفوق العلمي والعملي |
|