إن التكامل الأوروبي يعني ضمناً التنازل عن السيادة الوطنية لصالح الاتحاد الأوروبي.. لكن رغم أن الدول الأعضاء تلتزم عن طيب خاطر بالقرارات التي تقضي بإلغاء الإجراءات الخاصة بالحماية - رسوم الاستيراد على سبيل المثال - إلا أنها تتردد في صياغة أو تطوير السياسات القادرة على منح الاتحاد الأوروبي السلطات غير المقيدة اللازمة لاتخاذ المبادرات.. ومن بين الأمثلة النموذجية لهذا النوع من التردد إستراتيجية لشبونة المعطلة، والاتحاد الاقتصادي والنقدي غير المكتمل، والآن في أعقاب الرفض الشعبي الأيرلندي، المصير غير المؤكد للمعاهدة الدستورية الجديدة للاتحاد الأوروبي (معاهدة لشبونة).
كما نستطيع أن نتبيَّن نقطة ضعف أخرى مشابهة حين ننظر إلى محاولات الاتحاد الأوروبي الرامية إلى تحديد معالم هويته في النظام العالمي.. ومن بين القضايا العديدة التي تتطلب استجابات فعّالة مسألة تغيُّر المناخ، ونهوض الصين، وانبعاث روسيا من جديد.. إلا أن الاتحاد الأوروبي يعجز في كثير من الأحيان عن الاستجابة، أو تأتي استجابته متأخرة وبطيئة، وذلك لأن بنيته السياسية تعمل على إعاقة اتخاذ القرارات السريعة والعمل السريع.. كانت هذه البنية مناسبة لعصر كانت فيه السوق الحرة تشكِّل القضية الوحيدة التي يتعيَّن على الاتحاد الأوروبي أن يتعامل معها على المستوى العالمي.. إلا أن ذلك العصر ولّى وانقضى.
تزداد صعوبة التغيير بسبب نقص الشرعية الديمقراطية اللازمة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي.. والافتقار إلى العلاقة المباشرة بالشعوب الأوروبية يحرم هذه المؤسسات من ممارسة الضغوط اللازمة لتمكينها من العمل السريع وتطبيق خطط الاستجابة الفورية.
لا تُوجد حلول سهلة لهذه المشاكل.. ولا يسعنا أن نضمن الديمقراطية في الاتحاد الأوروبي من خلال تطبيق النماذج والقواعد المعمول بها في الدول الأعضاء.. إن حجم هذه المشاكل يؤكد على ضرورة الاستعانة بحلول أكثر وضوحاً وتفصيلاً وأشد إحكاماً.. فحين تتعامل الدول الأعضاء مع الاتحاد الأوروبي فإنها تميل عادة إلى استهداف الترتيبات والتنظيمات التي تعمل على ضمان التعاون في حدود الأُطر المتفق عليها.. وكما أظهر الاستفتاء الأيرلندي، فإنها لا تتقبل عن طيب خاطر مبادرات التوحيد التي من شأنها أن تجعل من الاتحاد الأوروبي مركزاً مستقلاً للسلطة.
ولكن إذا افترضنا إمكانية التغلب على العقبة التي وضعها الناخبون الأيرلنديون على الطريق، فقد أثبتت التجارب السابقة أن تطور الاتحاد الأوروبي في المستقبل سوف يتسم بتمركز السلطة على نحو متزايد في بروكسل وتراجع دور البلدان الأعضاء كأفراد.. والحقيقة أن ثِقَل هذه العملية سوف يسمح لها بالاستمرار في العمل كنظام بيروقراطي مركزي للاتحاد الأوروبي، أو الآلية التي تعمل على صياغة المصالح المشتركة للدول الأعضاء، والتي يتحدد مجال عملها وفقاً للتعاون بين الحكومات على نحو دوري غير محكم.. وكلما اكتسبت البيروقراطية في بروكسل المزيد من المسؤوليات، كلما أصبحت أقرب إلى الاستقلال.
إن الهم الرئيس الذي يشغل الإدارة البيروقراطية للاتحاد الأوروبي يتلخص في إيجاد التسويات القادرة على تلبية رغبات الدول الأعضاء، واستيعاب التفضيلات الوطنية المتباعدة والمتناقضة في كثير من الأحيان.. وتنشأ الإرادة المشتركة عادة دون أي تأكيد على الطموحات والميول السياسية المتضاربة.. وقد يُنظَر إلى محاولات نزع الصفة السياسية عن الأمر باعتبارها تحركاً محموداً لأنه يسمح بتحقيق التوازنات بشكل أكثر يسراً.
بَيْدَ أن تعزيز الديمقراطية يتطلب التأكيد على إتاحة البُعد السياسي والحوار العام للجميع.. ويتعيَّن على المنتديات الوطنية أن تأخذ على عاتقها مناقشة القضايا الأوروبية المشتركة، وبالتالي ضمان توفر المعلومات للجميع، والشفافية، والسيطرة، وتحديد المسؤولية القانونية.. والحقيقة أن تأسيس الحوار العام بشأن السياسة الأوروبية في كافة بلدان الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يساعد في توضيح أهداف مشروع التوحيد، وإبراز المصالح المشتركة، وتحديد الهيئة المؤسسية لأوروبا.
هذا هو السبب وراء أهمية معاهدة لشبونة، التي تهدف فقراتها الواردة في الفصل الخاص بالمبادئ الديمقراطية التي تتعلق بمؤسسات الاتحاد الأوروبي ووظائفها الإجرائية إلى إرساء الأساس لنظام أكثر انفتاحاً على الحوار العام بشأن السياسات التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي.
كما تنجح معاهدة لشبونة في معالجة نقطة ضعف أخرى رئيسة تعيب الاتحاد الأوروبي - التي تتمثَّل في افتقاره إلى الكفاءة - فمن خلال تطبيق إصلاحات مركّزة لبنية مؤسسات الاتحاد الأوروبي وأسلوب عملها واتخاذها للقرارات، تعمل المعاهدة على تعزيز وتحسين فعالية هذه المؤسسات وتمكنها من اكتساب قدر أعظم من الطاقة والنشاط.
لا شك أن العديد من الأوروبيين العاديين لا يرون أن أوروبا ينبغي لها أن تلعب دوراً مهماً في الأحداث العالمية.. وهم يعتقدون أن السياسة الخارجية لا بد أن يتم التعامل معها من خلال الحكومات الوطنية.. إلا أن هذه النظرة عتيقة، فحتى في الأزمات الثنائية أو الإقليمية، لا يمكن التوصل إلى الحلول العملية إلا على المستويات التي تتجاوز الحدود الوطنية.
إن معاهدة لشبونة تنظر إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره كياناً منفتحاً على الخارج في الساحة الدولية.. لكن هناك حدوداً للدور الذي يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يضطلع به، وهي حدود تفرضها الطبيعة بين الحكومية للاتحاد الأوروبي.. والحقيقة أن اتخاذ القرار فيما يتصل بالقضايا الحرجة يرجع إلى البلدان الأعضاء السبعة والعشرين، وليس إلى الاتحاد.
في الداخل، تقطع المعاهدة شوطاً كبيراً نحو إنشاء أوروبا القائمة على مبادئ الحرية، والأمن، والعدالة.. ويتأسس على ذلك الإطار المعياري لسياسة الاتحاد الأوروبي.. كما تعمل المعاهدة على ترسيخ المؤسسات والترتيبات التي تحكم التعامل مع أمور مثل الضوابط الحدودية، وحق اللجوء، واستقبال المهاجرين، والتعاون بين السلطات القضائية والشرطة.. وبهذا تؤسس المعاهدة لقدر أعظم من الأمن الذي يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية.
لا تتسم المعاهدة بنفس القدر من التفصيل في مناطق أخرى، وبصورة خاصة فيما يتصل بتأسيس اتحاد اقتصادي معادل للاتحاد النقدي.. ويرجع هذا ببساطة إلى تعذر التوصل إلى اتفاق.. بَيْدَ أن معاهدة لشبونة تمهد الطريق أمام تخطيط وتنفيذ السياسات اللازمة للتعامل مع التحديات المعاصرة الحاسمة، مثل تغيُّر المناخ، والطاقة، والأبحاث، والتكنولوجيا، والسياحة.
أياً كان قصد الناخبين الأيرلنديين من رفض المعاهدة، فلسوف يستمر التغيُّر الاجتماعي الاقتصادي على النحو الذي لا بد أن يرغم الاتحاد الأوروبي على البحث عن أشكال جديدة للتنظيم، والجمع بين السبل الفيدرالية والتوجهات بين الحكومية.. على سبيل المثال، الحاجة إلى تكييف عمل البنك المركزي الأوروبي مع خطة شاملة للتنمية في أوروبا.. ويُشكِّل الاتحاد الاقتصادي والنقدي دليلاً على ذلك.
إذا ما تحدثنا بصورة أكثر عموماً، وبصرف النظر عن كيفية التعامل مع المشكلة التي فرضها الرفض الأيرلندي، فلا بد أن نؤكد أن الاتحاد الأوروبي سوف يكتسب بالتدريج هيئته المميزة على أساس المشاكل الجارية التي يتعيَّن عليه مواجهتها، وذلك لأن إدارة هذه المشاكل ذات الأبعاد المتنامية سوف تتطلب الاستعانة بأشكال راسخة ومستديمة من التعاون.
***
*كونستانتين سيميتيز رئيس وزراء اليونان الأسبق، وعضو لجنة العمل بشأن الديمقراطية الأوروبية (ACED).
خاص ب(الجزيرة)