إشكالية غياب الجمهور عن الأنشطة الثقافية قد لا يبدو أنّها قضية محلية، ولكن يبدو أنّها ظاهرة تنتشر على قطاع واسع في العالم العربي، بحيث يتداخل بها عدد من المسببات والمعوقات ترتفع بوجهها وتمنع الثقافة الجادة ذات المحتوى التنويري أن تتواصل بشكل إيجابي وفاعل مع الجماهير.
وقد كتب الأسبوع الماضي الكاتب الصحفي مأمون فندي في جريدة الشرق الأوسط مقالاً طريفاً حول هذا الموضوع، ذكر فيه بأنّه ابتهج بإحدى الندوات الإعلامية التي دعي لها في مدينة القاهرة، بالجمهور الكثيف الذي رافق البرنامج، وظنّ خيراً بالجماهير الطليعية الشابة في العالم العربي, ليكتشف في النهاية أنّ هذا الجمهور يدفع له أجر للحضور يتراوح ما بين خمسين جنيهاً ووجبة غذائية بحسب مساحة المشاركة وأهمية المشاركة، حيث ينظم منفذو ومعدو البرامج ترتيباً يقترب من الخداع البصري السينمائي مع تلك المجاميع ، ويشير الكاتب ساخراً إلى ظهور صناعة جديدة تسمى (مقاولي الجمهور) مهمتها جمع جمهور كمي وليس نوعياً للبرامج المصورة.
وأذكر أيضاً في نفس السياق مقالاً سابقاً للكاتب الساخر خالد القشطيني، يسرد فيه بعض من ذكرياته في غربته في العاصمة البريطانية لندن عندما كان يقوم بتنظيم نشاط ثقافي أسبوعي يستهدف الجالية العراقية، وكان في نهايته يقدم كبة عراقية تبرعت في إعدادها زوجته، ولكنه اكتشف أن الجماهير تغيب بغياب الكبة العراقية. فهل مرتادو الأنشطة الثقافية بحاجة إلى تشجيع بالموائد العامرة أم سينحدر الحضور من الكيف إلى الكم وصولاً إلى طفيليي الولائم التي تزخر كتب التاريخ بأخبارهم .. الذي يشارك في تنظيم وإعداد النشاط الثقافي الموجّه للجماهير, كثيراً ما يعلم نوع الخيبات التي تواجهه بها المقاعد الفارغة التي تفغر فكيها ساخرة من الجهد الكبير الذي بذل في التنظيم والإعداد, سوى بضع مقاعد يشغلها المنظمون، وأقارب من يقدم المحاضرة.
وأعتقد أنّ الموضوع هنا أكثر تعقيداً من أن يخضع لتفسير واحد، ولكن قد تتداخل عدّة عوامل تقف ضد تحويل النشاط الثقافي من صيغته النخبوية، إلى صيغة انتشار جماهيري واسع، وبما أنّ ليس هناك جواب قاطع ونهائي قد يكون هناك عدد من الأسئلة منها:
- هل هي الصيغة الثقيلة المعقدة التي تطرح بها تلك النشاطات بالشكل الذي تجعل الجمهور يضرب عنها صفحاً؟
- هل هي تقليدية ونمطية معدِّي تلك الأنشطة بالشكل الذي يجعلها مملة وغير جذابة ؟
- هل إنسان المدينة في العصر الحديث اكتفى بعالمه الواسع الشاسع المقولب داخل بيته الذي تصب فيه جميع وسائل الإعلام بشكل مكثف يكفيه عن الحاجة النفسية للبشر للتواصل الاجتماعي؟
- هل هي هيمنة الثقافة التقليدية المخدرة للوعي، والمسوغة لجميع أنماط التخلف، وبالتالي تبقى الثقافة التنويرية على الضفاف بشكل عاجز عن اختراق الطوق السميك الذي تضربه الثقافة التقليدية على الوعي الجمعي؟
إنّها عدّة أسئلة ولا أدعي امتلاك أجوبتها، عدا كونها مجموعة من التخمينات والتخرصات ولكنها تحيلني إلى أنّ الأنشطة الثقافية المحلية مازالت تكابد الانحسار الجماهيري عنها.