الذين شهدوا اللقاء (التاريخي) مع الأمير (خالد الفيصل)، أمير منطقة مكة المكرمة ضحى يوم الأحد الفارط، ناهز عددهم الخمسة عشر ألفاً من أبناء وبنات المنطقة. هذه أول مرة يجتمع فيها هذا العدد الكبير من أبناء هذه المنطقة، مع أمير منطقتهم، ليلمس الجميع عن قرب، صورة مقربة لمستقبل منطقته في السنوات العشر القادمة..
.. ويسهم في مناقشة تفاصيل آليات الوصول لهذه الصورة الزاهية، وهؤلاء الذين سعدوا بهذا اللقاء، يمثلون كافة المستويات الإدارية والثقافية والطلابية والشعبية. قياديون من كل الجهات، وأدباء ومثقفون وكُتاب، إلى جانب رجال أعمال، وشيوخ قبائل، وأعيان، وطلاب وطالبات.
كنت واحداً من هؤلاء السعداء بهذا اللقاء، وشهدت قبله عدة اجتماعات أخرى مع الأمير المثقف الطموح الجاد في عمله. حقيقة.. لم أفاجأ بما يطرح خالد الفيصل من أفكار علمية عظيمة، ويسوق له من رؤى عملية كبيرة، لأن هذه الأفكار النيرة، وهذه الرؤى الهادفة، هي مما تنتجه الإرادة القوية، التي تعرف كيف تنتصر على الظروف المحيطة، فتخلق منها آليات عملية، تعبر بها نحو الأهداف المنشودة.
الإنجاز المتحقق في منطقة عسير قبل اليوم، دليل قاطع، وحجة بينة، على أن أمير منطقة مكة، لا يمزح حين ينتقد بيته الداخلي في أروقة إمارة منطقة مكة..! ولا يتظرف وهو يومئ إلى قياديين ومسئولين في المنطقة، يعرفون كيف يستخدمون صلاحياتهم إذا تعلق الأمر بمصالحهم الخاصة، أو بمصالح أقاربهم، لكنهم يتذرعون بعكس ذلك إذا كانت المصلحة عامة..! وهو كذلك لا يتفكه ساعة أن انتقد الخدمات المقدمة لحجاج بيت الله الحرام، لأنها دون المستوى المطلوب، الذي يعكس قدسية المكان، وما تبذله الدولة في هذا الاتجاه.
وخالد الفيصل الذي عرفناه رائد بناء وتنمية في عسير من الطراز الأول، هو الذي عرفناه قبلها، رائداً في تنمية الحركة الرياضية في المملكة، وفي دول مجلس التعاون الخليجي، وهو صاحب فكرة (كأس الخليج)، وهو الذي نعيش معه في منطقة مكة اليوم، عملية كبيرة لنسج ريادة جديدة. ريادة صعبة للغاية، في منطقة معقدة إدارياً وجغرافياً وسكانياً، لكنها ليست مستحيلة بكل تأكيد.
المنجز المتحقق في هذه المنطقة في عام واحد، والذي تمحور في الترتيب الإداري لكافة القطاعات ابتداءً، ونقل الإدارات العامة من جدة إلى العاصمة المقدسة، وتأسيس المجلس الثقافي للمنطقة، وإطلاق سوق عكاظ التاريخي، ونقل بقية المحافظات وما يتبعها من قرى وهجر إلى الدائرة الأولى في سلم الإدارة التنموية.. كل ذلك يفضي إلى التفاؤل بحلول أسرع وأنجع، تقضي على الفساد الإداري والمالي، وتعمل على تحسين الأداء الحكومي، وتنهي مشكلة نقص مياه الشرب، التي احتدمت من جديد، مع بداية هذا الصيف بشكل أكبر، وتعالج الأحياء العشوائية في مكة وجدة والطائف، وتحد من ظاهرة الهجرة من القرى باتجاه المدن، تحت وطأة شح مياه الشرب، وغياب الخدمات البلدية، ووقوف بعض البلديات حجر عثرة في طريق وصول الكهرباء إلى هذه القرى، وتُنشط كذلك الحركة الرياضية والثقافية والفنية، وتعيد إلى العاصمة الصيفية (الطائف)، دورة المصيف الرياضية الشهيرة، وتحمي المعالم التاريخية والكنوز الأثرية، من إفساد الجاهلين، وعبث العابثين، وتعيد إلى المدن الحجازية، هويتها العمرانية بين مدن المملكة والمدن العربية، التي فقدتها بسبب سطوة النماذج العمرانية المعلبة.
إن نظرة سريعة إلى مسرد الخطة العشرية لتطوير منطقة مكة، الذي يبلغ تعداد سكانها ثمانية ملايين نسمة بعد عشر سنوات، توحي بأن حزمة جديدة من محاور بنائية وإصلاحية، أصبحت اليوم في مرمى كافة المرافق الإدارية الرسمية والأهلية في هذه المنطقة، وفي صلب تفكير وثقافة أبناء وبنات منطقة مكة.
مرة أخرى.. فإن خالد الفيصل بن عبد العزيز، وهو يلقي بهذه الحزمة الطموحة، لا يحلم أبداً، ولا يتقاعس أبداً، ولا يتهاون في سبيل الوصول للهدف المحدد. وعندما يتحدث عن سأمه وملله من البقاء في مقاعد العالم الثالث، فهو بذلك يعبر عن شعور ملايين السعوديين في هذه البلاد، الذين يتطلعون إلى الصفوف الأولى بين الدول المتحضرة، لأن مكانتهم تؤهلهم لهذا، وإمكاناتهم تساعدهم على التقدم، وعليهم أن يعملوا لهذا الشرف، لأن مقاعد الدرجة الأولى، من أهم مطالبنا، لكنها لا تأتي بالتمني، ولا تمنح للمتفرجين. (فما نيل المطالب بالتمني = ولكن تؤخذ الدنيا غلابا).
لو لم تكن الكعبة المشرفة، ما كان الحرم الشريف، ولا كانت مكة المكرمة. ولو لم تكن مكة المكرمة، ما كانت جدة، ولا كانت الطائف. هذه هي النافذة الأولى الذي يطل منها مشروع التطوير العشري الشامل لمنطقة مكة، كما رسمه أميرها. إن تنمية المكان بكله، تستلزم بناء الإنسان أولاً، فالمكان والإنسان، هما مرتكزا هذا التطوير العشري الشامل لمنطقة مكة، حين يبدأ بالمدن الرئيسية، لكنه لا يستثني أية قرية أو هجرة في أطراف المدن.
كان بوسع الأمير خالد الفيصل، وضع أفكاره ورؤاه على الورق، وأن يبعث بها إلى هذه الجهة وتلك، وأن يُشهرها في وسائل الإعلام، ثم يتفرغ لعمله المكتبي، لكن خطة طموحة كهذه، تحتاج إلى شورى شعبية، وإلى خطاب مصاحب. الشورى تحققت بنجاح، والخطاب الذي صاحب الطرح الشوري، كان مدروساً وشفافاً كما هي عادة الأمير المثقف، فقد عبر عن واقع معاش، وتجربة لا يمكن تجاوزها بحال. (هناك فرق كبير بين إسلام أسامة بن لادن وإسلام الدولة السعودية)، و(يجب أن نفرق بين فكر التكفير والتفجير، وبين فكر التنوير والتطوير). إسلام أسامة والقاعدة وطالبان، أخذ في الضمور والانحسار، فلم يبق منه سوى أصوات نشاز، ما زالت تنعق بالعداء والكراهية، وتصور الإسلام الذي تختطفه، على أنه دين حقد وبغض وإكراه ودماء، وإسلام الدولة السعودية بقيادتها ومواطنيها، هو الذي يبني جسور الحوار بين المسلمين وبين أصحاب الحضارات والديانات الأخرى، وإن كره أرباب التطرف والتكلس، وهو الذي يُعمر ويبني في الأراضي المقدسة، ويوفر للحجاج والمعتمرين، أمن سفرهم وعيشهم وإقامتهم. وفكر التنوير والتطوير، وليس التكفير والتفجير، هو الذي يقود اليوم أكبر وأعظم حِراك إداري تشهده منطقة مكة المكرمة، لتنمية إدارية وثقافية واقتصادية واجتماعية، نعبر بها ومن خلالها، إلى العالم الأول، بعيداً عن مقاعد الدرجة الثالثة.
هذه إرادة سياسية وإدارية كبيرة للعمل دون شك، تفضي إلى ريادة بنائية في المستقبل. إنه إذا انتصرت الإرادة الإدارية الشجاعة، تحققت معها الريادة التنموية المتميزة.
assahm@maktoob.com