الجزيرة- خاص:
حث الدين الإسلامي المسلم في جميع أحواله على فعل الخير، وبذل المعروف في آيات كثيرة، وأحاديث نبوية متعددة، قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس أنفعهم للناس) والصلح بين الناس باب عظيم من أبواب الخير الذي تتحقق به الرحمة والمودة بين الناس على قدر الاستطاعة، ولا شك أن المسلم مطالب بهذا العمل المتمثل في السعي للإصلاح بين الناس.
وفي ظل تعاظم قضايا المجتمع المسلم، وتعددها، وتنوعها مع تحديات العصر، وتشابك المصالح بين الناس.. ما المطلوب من المسلم في ظل ذلك، وخصوصاً عند وقوع الخلافات والشقاق والنزاع بين المعارف والأقارب؟
بعض العادات الخاطئة
في البداية يؤكد د. إبراهيم بن صالح الخضيري - القاضي بمحكمة التمييز بالرياض: إن الإصلاح بين الناس أمر واجب على كل مسلم، يقول الله - عز وجل - في محكم التنزيل: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}ويقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، ويقول - عز وجل -: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} والنبي - صلى الله عليه وسلم - أصلح بين الصحابة في خصومات كثيرة ودعا إلى ذلك، وفي الوقائع التشريعية التي دل عليها القرآن، ودلت عليها السنة في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده، قال: (الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وروي عن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى الأشعري ذلك، وأجمعت الأمة الإسلامية كلها على جواز الصلح في كل ما يتوصل به إلى الإصلاح بين المختلفين في الأمور التي تكون بين المسلمين والمسلمين بعضهم مع بعض، وبين المسلمين وأهل الحرب وبين أهل العدل وأهل البغي، وبين الزوجين، هذه مواطن الصلح.
والصلح في الشريعة الإسلامية من أعظم القربات، ولذلك فالصلح على الإنكار صحيح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال الشافعي: لا يصح لأنه عارض على ما لم يتثبت له فلم تصح المعارضة، ولنا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - الصلح بين المسلمين جائز، وهذا داخل في العموم فعلى كل موقف المسلم من الصلح ينبغي أولاً أن ينظر لمادة الصلح، فإن كانت مادة حلالاً طيبة مباركة فيسعى في الصلح ويكون له أجر عظيم عند الله - عز وجل - وفضل كبير يؤيد هذا الصلح ونصره ويطبقه، وإن كان الصلح ضاراً بمعنى أن يكون بمال حرام، أو يكون بشيء فاسد أو يكون بشيء ضار، فإنه لا يجوز أبداً أن يكون هناك صلح على الربا، أو صلح على لحم الخنزير، أو صلح على الزنا أو اللواط، أو نحو ذلك، فإن هذا لا يحل، أو صلح على أجرة لعمل إجرامي محرم، أو صلح على إخفاء معالم الإرهاب، كأن يأتي إرهابي فيقول لآخر أصلح بيني وبينك على أن تمكنني من إيصال الأسلحة، أو من الستر علي أو من إيوائي للمكان الفلاني مقابل كذا، أو يصلح أو يستر فلان ما بيننا ويبقى الأمر معلقاً في هذه المسألة، فهذا صلح على حرام ولا يحل بأي حال من الأحوال أن يقع هذا الصلح، والمسلم لا يجوز له أن يناصر هذا الصلح، ولا أن يؤيده ولا أن يضره.
عوائد قبلية
ويضيف د. الخضيري: إنه عندما يسعى المسلم لقضية الصلح أن ينظر إلى الآثار التي لا يكون مع هذا الصلح فيها بدع كفرية، مثال ذلك الصلح في قضايا القتل يكون أحياناً بين القبائل ما يسمى بالمرسم، ويكون هناك أيضاً ما يسمى بالعوائد القبلية التي يقيد فيها المجرم أو القاتل يقيد فيها القاتل فيحبوا ويقول كلمات كفرية يستنجد فيها برؤساء القبلية، مثل هذا الصلح لا يجوز وهو محرم في أعماله المحرمة، ويقبل الشرع منه ما كان موافقاً، فإذا اصطلح مثلاً إنسان عن التنازل عن القصاص بعد قيام القاتل بأعمال كفرية قلنا التنازل عن القصاص صحيح لأنه يوافق الشرع والأعمال الكفرية محرمة وإلحاد وظلم وضلال وهي باطلة وإثم مبين ويعاقب من فعلها بما يستحقه شرعاً ويمنع منها كل الناس، ولهذا فبعض ما يجري في الأعراف القبلية في قضية الصلح يكون فيه مخالفات وأحكام جاهلية جائرة وضلال مبين ويسمونه صلحاً والإسلام منه بريء والصلح منه بريء، فلا يسعَ المسلم في مثل هذه الصور التي تمتلئ إلحاداً وزندقة وكفراً بواحاً لا يسعى في هذه أبداً، وكان الصلح بين الكافرين أنفسهم بعضهم ببعض فإذا كان هذا الصلح يرعاه مسلم وترعاه محكمة مسلمة أو أمة مسلمة وكان هذا الصلح فيه حقن للدماء ويوافق الشريعة الإسلامية ويؤطر لها وينفع المسلمين أهل السنة والجماعة ويحقن دماءهم كما في الصلح بين الفئات الكافرة في لبنان، وكما في الصلح بين الفئات الكافرة في الدول الكافرة المنتشرة في أفريقيا وفي غيرها، فإن هذا الصلح ينبغي للمسلم أن يكون له فيه موقف وقصب سبق وقدم صدق.
المبادرة بالإصلاح
أما الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الربعي - مساعد رئيس محاكم منطقة القصيم فيقول: إن الشقاق والنزاع والخلاف بين الناس قديم قدم البشرية أفراداً وشعوباً وأمماً، وقد حث الله عز وجل على الإصلاح بين الناس، وجعل سبحانه وتعالى الأجر العظيم لفاعله، فقال سبحانه وتعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فمن سعى بين الناس بالصلح، وأحسن النية والقصد، وفقه الله لما يريد، وكتب على يديه نهاية حميدة لما حصل من شقاق ونزاع بين المتنازعين.
والإصلاح بين الناس باب واسع، كما في الشقاق بين الزوجين الذي قال سبحانه وتعالى فيه:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا}، فالزوجان إذا حصل بينهما شقاق ونزاع، وجب الإصلاح بينهما لما فيه من خير عظيم، وفضل كبير، ولقد وصف الله عز وجل الصلح بأنه خير كما قال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وإذا كان الخلاف والنزاع بين الأقارب والمعارف وجب على أهل الرأي ورجاحة العقل التدخل بالصلح بينهم، حتى لا تحصل القطيعة، وتتسع شقة الخلاف، ولو أدى ذلك إلى تحمل المال من أجل الصلح، ومن فعل ذلك وجبت له الزكاة شرعاً، قال الله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} والصلح يمتد إلى أوسع من ذلك كالإصلاح بين الشعوب والدول إذا وقع الخلاف بين المسلمين في ذلك، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، وبالجملة فبذل المعروف للناس، والسعي على قضاء حوائجهم، وإصلاح ذات بينهم من أجل القربات وأفضل الطاعات.
فحري بالمسلم أن يحرص على فعل الخير، وتلمس حاجات إخوانه المسلمين، فالإنسان مطالب بالصدقة عن أعضاء جسده، وفي الإصلاح بين الاثنين صدقة كما قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة).
ومن عظم مهمة المصلح، وشرف مسعاه، أن عفي عنه من إثم الكذب، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث أم كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها-: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيمني خيراً أو يقول خيراً).
ولقد بلغ أجر الإصلاح مبلغاً فضل على درجة الصيام والصلاة والصدقة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: (إصلاح ذات البين). والمبادرة في الإصلاح قبل اتساع الخلاف أمر الله به في القرآن الكريم، فقال سبحانه:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، ومتى سادت خصلة الإصلاح بين الناس فقد كثر فيهم الخير، وحلت المحبة مكان البغضاء، والصلة مكان القطيعة، فصار بذلك الناس إخوة متحابين، يرحم فيهم الكبير الصغير، والقوي الضعيف، والغني الفقير، فيكون المجتمع بذلك مترابطاً متماسكاً.