أنا الموقر حسين علي.. ألا تعرفني ؟! لا أحد في هذه المدينة يجهلني.. أنا من رسم مخطط هذا المكان، إنه الأشهر على الإطلاق هنا. هيا يا رجل بربك أخبرني لماذا يعتليك هذا الذهول؟! آه.. تستغرب أن أجلس معك.. حسنا أنا متواضع بطبعي.. أجل متواضع لا تستغرب لقب الموقر الذي أسبق به اسمي إنه إشارة إلى كل أبناء أرض العيون الصغيرة. ما بك ألا تصدقني ؟! اسمع.. أصحاب الأرض هنا - أرض العيون الكبيرة - يسبقون أسماءهم ب (النبيل)؛ ماذا عنك ؟! دعني أرى عينيك.. عجيب لا يبدو عليك أنك من هذا المكان ! أقصد أنك لست من أرض العيون الصغيرة ولا الكبيرة عيناك جاحظتان جدا.. يا إلهي إنهما أغرب عينين رأيتهما على الإطلاق؛ قل لي من أنت ؟ وأين أرضك التي يقطنها أصحاب هذه العيون ولماذا أنت هنا ؟.. حسنا دعك من كل هذا سأخبرك أنا بقصتي.. لقد أتى جدي إلى هنا في شبابه للعمل برصف وتمهيد الطرق؛ وحين قامت حرب أرض العيون الصغيرة مع جارتها أرض العيون الحمراء لم يستطع العودة. ورغم أن الحياة هنا كانت صعبة جدا في أولها إلا أنها راقت لجدي بعد ذلك . فقد كان النبلاء نبلاء معهم! بل إن جدي عاش عصره الذهبي حين بدأ الحكم الشيوعي؛ فلم يعد هناك نبلاء ولا موقرون وأصبح الجميع مدعوكون أقصد مواطنون! ولو كانت الظروف مهيأة لعودة جدي إلى أرض العيون الصغيرة لما عاد، لأنه أحب الأرض التي عمل بها، كان يقول إن كل شيء هنا اختلط بعرقه الزفت والإسفلت والإسمنت وحتى الطين والطحين. لكن ليت الحال بقي على ما كان.. ما بالك يا رجل تتململ في جلستك كأنك بللت ثيابك ! هل أطلت عليك ؟! أجل.. أجل فهمت سأكمل باختصار، في آخر سني جدي انتهى العهد الاشتراكي بلا رجعة.. أجل.. وعاد النبلاء (سوبر) نبلاء؛ أما الموقرون أصبحوا (مني مم) موقرون ! لقد عمل والدي باجتهاد بالغ حتى يوفر لنا معيشة مناسبة في الواقع الرأسمالي. لم يكن متعلما لكنه حرص على تعليمنا بشدة حتى أنه أرسلني لإكمال تعليمي إلى أرض العيون الناعسة رغم أن التعليم هنا كان متاحا للموقرين حينها. سامح الله أبي؛ ليته لم يفعل.. ليته لم يحرص على تعليمنا . المتعلمون يا صديقي لا يعرفون كيف يجنون المال. أجل صدقني.. لقد كانت معيشتنا جيدة جدا بالنسبة للموقرين رغم أن أبي لم يكن متعلما، أما أنا فلم أستطع أن أوفر لأبنائي ما وفره لي والدي، خاصة وأن ثمن حياة الموقرين هنا باتت باهظة جدا، لقد أنفقت كل ما جمعته لتعليم أبنائي في مشفى قضى فيه والدي آخر أيامه. ولداي الأكبران فاتهما العام الجامعي الأول لأنني لم أتمكن من تسجيلهما. الأنكى أن مدير عملي استغنى عني ولم أجد عملا بديلا..
***
يرجى الانتباه.. على جميع الركاب المتوجهين إلى أرض العيون الصغيرة على الرحلة رقم ثمانية وأربعين التوجه إلى البوابة رقم ستة
***
- أنت تتململ مجددا.. لا عليك سأغادرك. هذه الرحلة التي ستقلنا أنا وأبنائي إلى أرضنا، علي أن أحبها كما أحببت هذه الأرض.. لكن بالله عليك كيف لي أن أعيد جدي ليخلط عرقه بالزفت والإسفلت والإسمنت والطين والطحين ؟! كيف سأعود طفلا أدرس في مدرسة للموقرين فقط دون أن أرى صديقا نبيلا واحدا ؟! كيف سأحمل باقي روحي وأرحل عن قبر أبي وجدي وقبر أيامي الحلوة وأجيب أبنائي عن أرضي ؟! كم أتمنى لو أستطيع توفير ثمن المعيشة الباهظة ولا أغادر المكان الذي أحب ,, بقي شيء أخير أود قوله لك.. أعلم أن الاستماع إلى شخص يحكي بلغة لا تفهمها أمر ممل ! لكن سيدرك حفيدك كم سيكون مريحا التحدث بكل ما تريد إلى شخص لا يفهم لغته قبل أن يغادر.. فقط أخبر حفيدك ألا يكون غبيا مثلي ويرسم هو مخطط مطار ترحيلكم إلى أرض العيون الجاحظة.. سررت بلقائك.