إنه يومي الأول من أيام التقاعد!
رائحة الثياب المغسولة المعلقة على حبال الشرفة، أزيز المكنسة الكهربائية، رائحة (الملوخية) المنتشرة في أرجاء البيت، وانتظار عودة سالم والأولاد إلى البيت ظهراً، تفاصيل حميمية ذكرتني بسنوات الزواج الأولى.
ارتديت قميصاً وردياً قصيراً وانطلقت بهمة ونشاط أنظف المنزل وأترنم بأغنية أحبها كان سالم يغنيها لي، ومن حين لآخر أرى نفسي في مرايا البيت وأتأمل هيئتي الجديدة!
توقفت هنيهة أمام المرآة وتمتمت ساخرة:
أبلة سعاد المديرة! لا أحد يراك الآن.. هيه..! أين التنورة السميكة والحذاء الأسود والشعر المشدود إلى الخلف على هيئة كعكة؟!
أين الملامح الصارمة التي تخشاها الطالبات؟
أين طوابير الصباح المنتظمة الصامتة؟
أين مدرستي ذات الطوابق الثلاثة والفصول والمقاعد والحصص والحكايات واليوميات التي أتحكم في كل صغيرة وكبيرة فيها؟
أين مملكتي التي أفلت شمسها!؟
آه! هذه منشفة قديمة تصلح لإزالة الغبار. سأبدأ بتنظيف أرفف المكتبة. على رفها السفلي استوقفتني صورة قديمة لحفل زفافي، كان سالم يطوقني بذراعيه القويتين فيما كنت أتشبث برسغه وعلى شفتي ظل ابتسامة بكر. قلبت الإطار بين يدي. كان الغبار مترسباً بين زخارف الإطار ونقوشه البارزة، بل إن الغبار تسلل عبر زجاج الصورة المشروخ وغطى جزءاً كبيراً منها، سيتطلب تنظيف وإصلاح الإطار وقتاً طويلاً.
قاومت حزناً مبهماً باغتني وأعدت الصورة إلى مكانها.
ألم تكن هذه الصورة ملقاة بين الخردوات في المستودع؟
لعل الخادمة أخرجتها من هناك قبل أن تسافر.
كيف لم أتنبه إلى هذه الصورة من قبل؟!
بعدما انتهيت من تنظيف المنزل، ارتديت فستاناً أحمر اللون موشى بفصوص فضية. طليت وجهي ببعض المساحيق، وثبت وردة مجففة حمراء بين خصلات شعري.
أزيز سيارة سالم شحنني بالحماس فنثرت على عنقي قطرات من عطر العود الذي يحبه، وحثثت الخطى صوب النافذة، تأملته وهو يترجل من السيارة، كان مستغرقاً في حديث حميم. لابد أنه يتحدث إليها، ولا ريب أنها أنهت المحادثة بدعابة كعادتها. أغلق الهاتف ونظر إليه بود ثم وضعه في جيبه وربت عليه.
أسدلت الستارة على النافذة واكتنفني إحساس ثقيل بالضيق، اتكأت بظهري على الجدار وتنهدت بحرقة:
آآآآه.. (سحر), طالبتي الحسناء ذات الجسد البض والبشرة البيضاء الناعمة والأنامل الرقيقة.
سحر، الورم المتجذر في حناياي، ما فتئ ينمو ويتناسل، وما فتئت أراقبه فتتبدى لي بثرة صغيرة.
داهمني صداع مفاجئ وبرودة في أطرافي.
ولكن ما الجديد في الأمر؟! سحر كانت وما زالت زوجته الثانية.
تلك البئر المطمورة!، ما خلت أنني ذات يوم سأنزع غطاءها وأنزل دلوي إلى أعماقها السحيقة، لأخرجها ممتلئة بالوجع.
تهربت من رغبة ملحة في البكاء ومشيت متثاقلة إلى المطبخ.
دلف سالم إلى البيت وما إن وقعت عيناه علي حتى تلفت حوله متسائلاً:
أين الأولاد؟
- ذهبوا مع أصدقائهم إلى البر.
- تبدين شاحبة!
- .....
- مريضة؟
- لا..
أخرج هاتفه من جيبه ووضعه على طاولة الطعام.
بدأ هاتفه يرن بشكل متواصل فنظر إليه باهتمام ثم أبعده عنه ببطء. لاحظت ارتباكه فعلقت بخبث:
هاتفك.. ألا تسمعه؟!
- بلى، ولكنني جائع ولا أود التحدث إلى أحد.
أغلق الهاتف وعلت وجهه مسحة من الوجوم فازداد إحساسي بالضيق وقلت منفعلة:
لقد اعتادت أن تهاتفك عندما تكون في بيتي، على الرغم من أنني لا أهاتفك قط حين تكون في بيتها، تجنباً لإحراجك وإزعاجها.
بدت على محياه علامات التعجب من تعليقي، وساد بيننا صمت ثقيل لا يخدشه إلا صوت اصطدام ملاعقنا بالصحون. توقف بغتة عن تناول الغداء وصوب نحوي عينيه فيما نمت على شفتيه ابتسامة حانية حين سألني:
اشتقت إلى المدرسة؟
mariamaldani@hotmail.com