العلوم متداخلة ولها طبيعة الاعتماد على بعضها الآخر.. ومن المعلوم أن مصطلح المنحى المتعارف عليه في عالم الأكاديميا ب (منحى التداخل التخصصي):

interdisciplinary approach إن هذا المنحى عبارة عن افتراض وجود أرضية مشتركة أو قاسم مشترك بين تخصص أو أكثر

مثل: العلاقة بين الجغرافيا وعلم السياسية، والجغرافيا الحضرية وعلم الاجتماع الحضري.. وبين التاريخ والجغرافيا التاريخية.. والجغرافيا الاقتصادية وعلم الاقتصاد.. والجغرافيا الطبية وطب المجتمع.. والجيومورفولوجيا والجيولوجيا وعلم التربة، وهكذا.

ومن هذا المنحى استطاع العديد من فروع المعرفة الإنسانية استثمار هذا التداخل وتفعيله لصالح العلم بشكل عام، ولطالما وظف المبدأ لدراسة مشكلات أو معضلات مثل قضايا البيئة والتغيُّر المناخي وانتشار الأمراض وتوطنها.. وهذا الأمر له ارتباط بمفهوم التوأمة بين الأقسام ذات العلاقة، مفهوم تدفع به الإدارة العليا في جامعة الملك سعود وعلى قمتها مدير الجامعة الدكتور عبد الله العثمان، ووزير التعليم العالي من المؤيدين بالطبع للمنحى التطويري الذي تنتهجه الجامعة، ولربما جامعات أخرى تسلك الطريق نفسه، وليس الأمر مقصوراً على هذا المفهوم فحسب، بل هناك مفاهيم أخرى تطويرية تسعى الجامعة الأم إلى تحقيقها.

ولو ذكرنا أن جامعة مثل جامعة الملك سعود تسعى سعياً حثيثاً لتحقيق الريادة التي تطمح كل مؤسسة أكاديمية لنيلها لما جافينا الحقيقة، والسبب يعود إلى إدراك أهمية نوعية المنتج، أو ما يُعرف بمخرجات مؤسسات التعليم العالي.. دار الحديث مع الوزير حول الموضوع الذي نوه إلى أهميته، ألا وهو العناية بالمراحل التعليمية السابقة للمرحلة الجامعية حيث تكون الرافد والمغذي، وهو محق في ذلك حيث إن الشأن التعليمي يُشكِّل منظومة وحلقات يرتبط بعضها بالآخر، أليس كذلك؟ ولا يختلف اثنان على أن التطوير مطلوب.

وتحث الخطى جامعة مثل جامعة الملك سعود لتكون في الصدارة في هذا الشأن، ولقد ذكر مديرها في اجتماع لجنة عليا شكَّلها للتطوير، التي تضم مجموعة من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة من الرعيل الأول المخضرمين ومن الجيل الجديد، ومن هذه الخلطة إن جاز التعبير، ذكر أن الهدف من تشكيل تلكم اللجنة لمزج خبرات الماضي بالحاضر وبتطلعات المستقبل لتحقيق التوازن في الحراك الأكاديمي وترشيد التطوير والتحديث.. كلمات تحمل مفاهيم عميقة ومتوازنة صدرت ممن يتربع على عرش التطوير والتحديث.. ويذكر رئيس اللجنة في عرض حديثه عنها: (أن التميُّز والريادة يتطلبان الانطلاق من رؤى متوازنة تجمع بين التشخيص الدقيق لحال الجامعة من جهة، والنظرة المستقبلية لمآلها من جهة أخرى..)

ولا أريد أن أقوم بحملة دعائية لجامعة الملك سعود، لكن الحقيقة تفرض نفسها، حيث إنها تُعد واحدة من مؤسسات التعليم العالي الرائدة في وطننا، ولقد أسهمت وتسهم بنصيب وافر في إمداد المجتمع، ممثلاً في مؤسساته العامة منها والخاصة، بالكوادر البشرية المؤهلة في مختلف المجالات.

ولو عدنا إلى مفهوم التوأمة بين الأقسام الأكاديمية في أية جامعة من الجامعات، والذي نتطلع أن يتحول إلى برنامج عملي، نقول إنه من الأولى تحقيقه بين أقسام الجامعة الواحدة، بالمقدار نفسه إن لم يفقه النظير: التوأمة مع أقسام خارج الجامعة.. ولاعتبارات عملية ومنطقية التوأمة ومد يد التعاون مع الأقسام النظيرة وذات العلاقة في أرجاء الوطن.. من الأجدى أن يُعطى الأولية وليس على قدم المساواة مع الأقسام خارج الوطن، وإن قال قائل نريد كسب الوقت واللحاق بالركب، نقول فليكن ذلك.. من الفوائد العملية من التوأمة المحلية إزالة الرهبة والحواجز النفسية بين منسوبي الأقسام من أعضاء وعضوات هيئة التدريس، التي أعترف بأننا نعيشها ونعايشها يوماً بعد الآخر.

وفي مجال التطوير، لفت الانتباه الوزير إلى مسألة على جانب كبير من الأهمية ألا وهي تطوير عضو هيئة التدريس وانخراطه في دورات وبرامج خارجية، وذكر لنا معاليه أنه مر بهذه التجربة وحقق منها فائدة عظيمة.. لا بد للأطباء مثلاً من الاتصال المستمر بمناحي التطوير الخاص بمهنتهم.. وكذلك الأكاديميين بمختلف تخصصاتهم، ألا يحتاجون إلى الخروج من صومعاتهم واستنشاق أجواء غير أجوائهم، أم أنهم سيظلون راكدين مستسلمين راضين بما لديهم من علم قليل؟ فلنتوجه نحو عقد دورات لتطوير المهارات التدريسية للأكاديميين.

وأعود لموضوع الاجتماع مع الوزير، إذ طرحت عليه مسألة ذكرت فيها أن أحد فلاسفة الألمان، وهو: كانت، الذي رأى أن تبادل المعلومات بين شخصين من نوعين: نوع سردي قصصي (وهذا منهج التاريخ) وآخر وصفي استقرائي (وهذا منهج الجغرافيا).. وذكرت لمعاليه أن الغالبية من (ملقني) العلم في المرحلة الجامعية يتبعون الأسلوب القصصي السردي في توصيل المعلومة للطلاب، وهذا منهج عفا عليه الزمن وأصبح في ذمة التاريخ، نذكره من باب العلم بالشيء.. والسؤال المطروح هنا: هل لا نزال نُخرِّج طلاباً، على المستوى الجامعي، ولربما ما فوق ذلك، يحفظون المعلومة ولا يستوعبونها؟ هل نخرِّج قوالب لا تعي قلوبهم وأذهانهم الفكرة، بل مجرد المعلومة وليس ما وراءها؟

أين محطات التدريب الحقلية، بالنسبة للعديد من التخصصات، وأين مراكز التدريب في مؤسسات المجتمع، وأين البرامج الصيفية التطبيقية الداخلية منها والخارجية، تطرح الأقسام الأكاديمية في الصيف مقررات ويقوم بتدريسها أكاديميون، فهل نقول: (الصيف ضيعت اللبن؟).. أسئلة أطرحها على معالي الوزير ومعالي المدير وعلى وكلاء الجامعة وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام.. دار الحديث مع الوزير حول موضوع التدريب التعاوني، ويتمثَّل ذلك في وضع برنامج في الفصل أو الفصلين الأخيرين من مشوار الطالب الجامعي ليتدرب في مؤسسة عامة أو خاصة ذات علاقة بتخصصه، ويكون البرنامج بإشراف مشترك بين الجامعة والجهة التي يتدرب فيها، هل يطبق البرنامج في كل التخصصات؟، نعلم أن كلاً من جامعة الملك فهد وجامعة سلطان تطبقان هذا البرنامج التعاوني منذ أن أُنشئتا.

وما يختص بالعلاقات الجامعية الدولية فعلى الجامعات أن تكون روابط ذات قيمة عملية مع مراكز العلم ومقاصد التعلُّم، من ذلك جامعة هارفارد في مدينة كيمبرج بولاية ماستشوسس الأمريكية، إذ يمكن على سبيل المثال تصميم حلقات دراسية في الفصل الصيفي لديهم، حيث تشمل برامجهم مشاريع مفتوحة لقضايا جيوبولوتيكية، وهذا موضوع جئنا على ذكره مع وزير التعليم العالي، بل إنه بادر بإثارته، وقضايا تتعلق بالتغيُّر المناخي، وقضايا التصحر والموارد المائية، والعولمة والطاقة البديلة.. وأمثال هذه الروابط والعلاقات الدولية الجامعية من شأنها أن تعود للمؤسسة العلمية بمنافع متعددة يصعب طرحها في هذه المقالة ويمكن الحديث عنها في مقالات قادمة -بإذن الله-.

ودور مهم يمكن أن تضطلع به الجمعيات العلمية.. تضم جامعة الملك سعود، ثلاثين جمعية علمية ونيفاً، فعلى الجمعيات تقوية العلاقات البينية بين الجمعيات ذات العلاقة من جهة وبين الجمعيات والأقسام الأكاديمية من جهة أخرى.. أعرف مثلاً أن الجمعية الجغرافية الأمريكية لديها العدد الكبير من المجموعات التخصصية، وعلى سبيل المثال، هنالك مجموعة تهتم بمناهج الجغرافيا على المستوى الجامعي، وهذه المجموعة عبارة عن منتدى يصدر عنه أعمال تهدف إلى تطوير المنهجية العلمية للتخصص، ومجموعات تهتم بفرص العمل للجغرافيين وتنميتها، ومجموعات لتطوير الفكر الفلسفي للتخصص، وأخرى للتاريخ الشفوي.. وأخيراً همسة في الأذن تغني عن صيحة في ميدان، أقول: هنالك الكثير من التطوير والخطوات الوثّابة التي نتمنى جميعاً لها النجاح، وللقائمين عليها السداد والتوفيق، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.