انتقلت إلى رحمة الله تعالى أرواح قرابة جيلين من أجيال الأمة العربية والإسلامية فيما لا زالت القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني تراوح مكانها وكأنه كتب عليها أن تدور وتدور في شكل حلزوني بداخل حلقة سياسية مفرغة لدائرة مفروضة تضيق عليها الخناق شيئاً فشيئاً خصوصاً على من يعيش في داخلها ولكن لتعود وتتسع مرة أخرى هكذا دواليك.
الخوف كل الخوف من أن تنتقل إلى رحمة الله تعالى أرواح هذا الجيل وربما الجيل الذي يليه وأن تنتهي القضية الفلسطينية وتستمر كما هي عليه تعيش بعمق في العقول والقلوب وتستنزف الأموال وتسفك الأرواح وتريق الدماء ومن ثم تقبض الأرواح دون أن تحقق الآمال والطموحات وتشفي القلوب وتريحها من عناء الدوامات السياسية والاقتصادية المميتة المهلكة التي تحيط بها وبجميع أطرافها بل وحتى بمن ينتمي إليها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
الحقيقة التي باتت تؤكد ذاتها المرة تلو الأخرى أننا لا يمكن أن ننكر أن المنطقة العربية استقبلت ومن ثم احتضنت وأخيراً احتوت عشرات الآلاف من الجهود والمساعي والمبادرات السلمية والدبلوماسية، لكنها جميعاً وضعت بعناية في مخازنها الضخمة أو تمت عملية فهرستها ومن ثم وضعها على أرفف مستودعاتها التليدة. لكن الحق يقال إن المنطقة بقضيتها الأولى أعطت تلك الجهود والمساعي حقها من التوثيق الرسمي الحدثي إكراماً لها ومراعاة لعامل محاسبة التاريخ.
السبب أن مشكلة القضية الفلسطينية لها مشاكل عدة، وأيضاً لمشاكل القضية العديدة أعداد لا حصر لها من المشاكل الثانوية والفرعية على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي. من هنا تكمن المشكلة برمتها في أن تلك العناقيد من المشاكل اللامتناهية لا تتحرك أكثر مما تتأخر وتتعثر في مجملها كلما فشلت الحلول التي وضعت لها. السبب ببساطة أن الحلول إما فشلت، إما لأنها كانت حلولاً جزئية أو ثانوية أو مشوهة ومنتقصة لم تضع في اعتبارها أصلاً حل القضية الفلسطينية حلاً شاملاً وعادلاً وجذرياً.
لذا ما أن تنتهي الجهود أو المساعي أو الوساطات من حل مشكلة ما من تلك المشاكل العنقودية بعد أن خصصت لها الوقت والأساليب والآليات حتى تواجه مشكلة جديدة أخرى لم تكن متوقعة ولم توضع في الحسبان تظهر من هنا أو هناك لأسباب خارجة عن نطاق قدرة الفرد أو حتى الجماعة، فمصادرها موثوقة وموثقة ومتمكنة في فنون التعطيل والتخريب.
اليوم الذي لن يختلف عن الأمس تعددت الزيارات والجولات والقمم الدولية والإقليمية العامة والخاصة على المنطقة التي استقبلتهم جميعاً بالترحاب بداية بالمبعوثين العامين والخاصين الأمريكيين والأوروبيين (وغيرهم) ونهاية بالمبعوثين الدوليين الذين توافدوا لرحابهم بشكل متواصل إما لوقف إطلاق النار، أو لإعلان هدنة مؤقتة، أو للبحث والتقصي، أو للقيام بجولات سياسية على كافة المستويات وأعلاها وأبرزها وأرفعها لمناقشة مبادرات وجهود ومساعدي السلام أو لعرض خطة جديدة أو لاقتراح خارطة طريق سلمية جديدة.
محصلة الأمر أن المنطقة ما أن تستقبلهم وتحتويهم حتى تودعهم بعد أن أدخلتهم عبر دوائرها الحلزونية السياسية المتواصلة وبعد أن بعثرتهم في مختلف قنوات اتصالاتها الدبلوماسية المعقدة التي تدور حول ذاتها. جميع تلك التحركات السياسية والدبلوماسية دخلت في نفق المنطقة المظلم ودواماتها العنقودية التي تقود الجميع رأساً دون تأخير إلى مخازنها السياسية والدبلوماسية أو لتضيفها إلى أرفف مستودعاتها التاريخية.
صحيح أن من لا يعترف في المنطقة بأنه لا يعاني من مرض الإحباط وربما من عضال الاكتئاب بسبب تطورات القضية الفلسطينية السلبية، فإنه إما مكابر ومغالط للواقع، أو أنه كالنعامة التي تدرس رأسها في الرمال وتعتقد بأنها قد أخفت جسدها الضخم عن أعين الناظرين. وفي أي من الحالتين سيذهب صاحبها دون رجعة وتبقى القضية الفلسطينية على ما هي عليه تراوح مكانها.
مشكلة فلسطين مشكلة مستعصية على الجميع حتى على الفلسطينيين أنفسهم بعد أن ذاقوا طعم الخلاف والاختلاف واستساغوه فبرعوا في تناوله وتعاطيه بل وفي تمرير مذاقه للجميع دون استثناء. الجميع يدركون تماماً هذه الحقيقة ومع هذا يمضون قدماً في ذات المسار وبذات الزخم دون خوف أو تردد، إذ لا خيار آخر لهم ولا بديل عن تذوق طعم القضية التي تتصدر طليعة قضايا المنطقة العربية العالقة على شماعة التاريخ.