(1)
مشكلتنا * كثيرون يعرفون معالي الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان وزيراً وسفيراً وسياسياً وإنساناً، لكن القليلين منهم يجهلون أن لدى هذا الرجل المخضرم ذائقة أديبة رفيعة المستوى تتجلى في إطلالاته المتقطعة عبر بعض نوافذ الإعلام المحلي والعربي بين الحين والآخر، وحين يكتب أبو عماد عن أمر من الأمور - والسياسي منها خاصة- يأسرُ قرّاءه بأناقة العبارة، وسلاسة الفكرة، وسداد الرأي.
**
* ولذا، أكاد أجزم أن معاليه مقلُّ جداً في الكتابة إلى درجة التقصير، رغم أنه يملك حصاداً من الرُّؤى والذكريات والمواقف التي تستحق أن تروى.. ليس في مقال عابر يجود به على هذه المطبوعة أو تلك، وهو ما نتمناه وإن قل، ولكن عبر كتاب يدّون فيه تجربته إعلاميا وسياسيا وفكريا، وقد رجوته مرة ومعي أخوة آخرون أن يسارع بكتابة مذكراته ونشرها، قبل أن تأتي عليها (أرضة) النسيان، فقال معاليه إنه يفكر جدياً في ذلك، وأن شيئاً ما سيرى النور قريباً بإذن الله، وأقول بدوري إنا لتحقيق ذلك الوعد لمنتظرون!
**
* وأتذكر في هذا الصدد المداخلة المبدعة لمعاليه التي أدلى بها قبل أسابيع قليلة في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بالرياض عبر الجلسة الأخيرة التي اختتمت بها ندوة الملك فيصل طيب الله ثراه، برئاسة شبله المبدع سمو الأمير خالد الفيصل، حين شنّف معاليه الآذان بحديث الذكريات التي ربطته بالملك الشهيد، خلال فترة حرجة من تاريخ هذه المملكة الأبية التي وجدت نفسها ذات يوم من أيام الستينيات الميلادية طرفا في صراعات عربية لم تأمر بها ولم ترض عنها أو تسع إليها، وكان الإعلام المكتوب والمسموع في ذلك الوقت (سلاحاً) في معركة تصفيات حسابات متعددة الأطياف والأطراف والأغراض بين بعض شرائح السياسة العربية.
**
* وقد روى معاليه مشهدا من مشاهد النبوغ السياسي الفيصلي بعيد المدى حين وجهه الملك الحكيم بأن ينقل إلى رؤساء تحرير الصحف المحلية في المملكة أمره الكريم بأن لا يتعرض أحد منهم -تصريحاً أو تلميحاً- بالهمز أو اللمز أو الشماتة، لما حلَّ بالشقيقة مصر في أعقاب نكسة حرب 1967م، وإعلان زعيمها الراحل جمال عبدالناصر التنحي عن سدة الرئاسة، وكان هذا في الوقت الذي لم يجف فيه بعد مداد الحملات المستعرة التي كانت تشنها بعض وسائل الإعلام في الشقيقة مصر ضد هذه البلاد وقيادتها، لأسباب يعرفها المعاصرون لتلك القضية، وقد روى معالي الشيخ الحجيلان تلك المواقف بأسلوب آسر وجميل، تمنى معظمنا.. لو لم يمسك عن الكلام في ذلك المساء!.
**
* مرة أخرى، أتمنى على أبي عماد أن يُعجِّل بتدوين مذكراته وإخراجها للناس، ففيها عبق الأدب وألقُ التاريخ!
**
(2)
لا تنه عن قول وتأتي مثله!
* هناك مقولة تتلقفها أسماع بعض المجالس من أن مجتمعنا يشهد شرخاً يمثله التناقض بين الممارسات الحياتية الفعلية التي يأتيها بعضنا، وخصوصاً الشريحة المثقفة منه، وما يصرح به هذا البعض من مواقف وآراء سواء عبر الكتابات أو بعض (عنتريات) المجالس ويتخذ معظمها منحى طوبائياً من المثالية!
* وتعليقاً على ذلك أقول: إن المثقفين هم المستهدفون الرئيسيون بهذه المقولة، لكن اتهامهم بازدواجية القول أو العمل أمر يمكن الأخذ به جزءاً لا كلاً، بمعنى أن تعميم هذا الحكم على كل المثقفين يحمل قدراً كبيرا من الإجحاف وسوء التقدير!
**
* نعم، هناك منهم وسواهم من يُرائي بالتُقى، والله به عليم.
* أو يتحدث ضد الفساد، والله بشؤونه خبير!
* أو ينتقدُ الإسراف في وسائل العيش وهو من المسرفين!
* أو يتغنَّى بالوطن حباً وولاءً، في الوقت الذي يحرج فيه الوطن ببعض سلوكياته خارج الوطن وداخله!
* أو يشكو غيرةً على الأمن المروري، وهو من العابثين!
* مرة أخرى، الازدواجية طبعُ وتطبّع في منظومة إنسان هذا العصر، المثقف وغير المثقف، لكن تعميم الحكم على الكل مشكلة أخرى!
**
* أما لماذا هذه الازدواجية، فمسألة تؤرق خبراء النفس والمجتمع، وهي تتطلب تأملاً عاقلاً وعادلاً وطويلاً للخروج برؤية تقرّبُ صاحبها من الحقيقة وتنأى به عن الظن.. الذي لا يغني من الحق شيئاً!
* جُزءُ من المشكلة في تقديري المتواضع، يعود إلى ما تشهده بعض شرائح هذا الجيل من تباين بين حلم لا حدود له، وإمكانات تقيّدها أغلال المادة والزمان والمكان والخبرة، ومن هنا، قد تأتي الازدواجية أحياناً تعبيراً عن إرهاصات الفجوة بين ما (يتمنى المرء أن يكون) وما (يمكن أن يكون)!