..لقد كان للمفردة اللفظية ولا يزال أثرها الحيوي وقيمتها
الفاعلة ودورها الحاسم في عمليات التغيير الإنساني على الصعد كافة، الديني والعلمي والفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ فالكلمة كوعاء للمعنى وكقناة يتعاطى من خلالها بنو الانسان، وُظفت عبر المسيرة الإسلامية الطويلة،،،،،،،
ومن خلال خطبة الجمعة على وجه الخصوص لصياغة الوعي الفاقة، وصناعة العقل القادر على الإنتاج والتفاعل، إن تأملا فاحصا ونظرة متعمقة إلى واقع الخطبة اليوم في طول العالم الاسلامي وعرضه تمدنا بصورة مرتبكة هي بأمس الحاجة إلى الكثير من المعطيات التصحيحية.
مع أن خطبة الجمعة تتضاعف منابرها ويزداد متعاطوها إلا أنها وحتى الآن لم توظف على النحو الكافي، فهي - في الغالب الأعم - خطاب إعلامي جامد غير قادر على التكيف مع معطيات العصر، وغيرقادرعلى تحقيق جزء ولو يسير من مهمته في نشر الوعي الثقافي كثير - حتى لا نقع في خطيئة التعميم - من الخطباء الذين يمارسون الخطابة، هم في الحقيقة لا يمتلكون أدواتها، ولا يتوافرون على تقنياتها، بل ثمة نمط عريض منهم يتصور أن المقوم الأساس للنجاح في الخطابة هو القوة غير العادية للحبال الصوتية عبر الصراخ المتواصل والصوت الجهوري، ولا يدرك أن الخطبة فن حيوي من فنون الدعاية والإعلام!. ضئيل هم الذين يبرعون في فن الخطابة ويتقنون مباشرتها ويدركون الدور الخطير للمنبر الذي يعتلونه - أكرر مرة أخرى - هناك خطباء ناجحون يتميزون بجودة الطرح، وسلامة الأفكار، والعطاء العلمي المتدفق يؤدون الخطبة بقالب أدبي شاعري أخاذ، يلامسون هموم الأمة، يحللون واقعها، يجلون الحقيقة، ويرسمون معالم النجاح، ولكن نسبتهم ضئيلة، فثمة شح منبري في هذا المجال.. الخطباء ضروب متنوعة، فثمة خطباء يبلغ بهم الحماس مبلغه فيفقدون السيطرة على أعصابهم ويتفوهون بجمل لا يفقهون أبعادها، ويقررون أفكارا لا تشتغل إلا على تجييش الجانب الوجداني لدى الجماهير فتشحنهم وتؤلب عواطفهم، وتقحمهم في قضايا ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، إنه لا يسوغ أن توظف الخطابة لرفع الشعارات أو إثارة الجماهير الغافلة، وتحريضها على حاكمها المسلم وسوقها إلى مساقات لا تحمد عقباها، إن الخطبة حينما تستثمر كبعد تعبوي، وتكون ذات طابع تصعيدي تحرك من خلالها اللافتات، وتنتفض جراءها المشاعر فهي ليست إلا فعلا تشويشيا وشغبا إعلاميا يفتت وحدة الأمة ويشتت رؤيتها العامة ويقوض بعدها الأمني. عندما يطغى حماس الخطيب على عقله فهنا يخنس الرشد وتتوارى الفكرة الواعية، يغاب المعنى المحرك، وتختفي القيمة المؤثرة لصالح الشهوة الخفية والغرض الذاتي، وثمة شريحة من الخطباء يغلب عليهم الهدوء القاتل والبرود الممل فيرسل خطابه، وكما لوكان في محاضرة أكاديمية أوأمام نخبة من طلائع المثقفين فتتهادى المعاني إلى حس المتلقي على نحوجاف حتى يسيطر التثاؤب على الجميع، ويتولد جراء ذلك شعور شديد بمغادرة هذا الجو عبر الإخلاد إلى النوم. المنبر هنا يتحول إلى برج عاجي يحجب الخطيب عن حقيقة الجمهور وواقعه المعاش هنا تفقد الخطبة أثرها وتقل الدافعية لدى مرتادي المسجد، وثمة لون من الخطباء قتل خطبه تكراراً وأشبعها طرقا، فيتلو مفردات محددة، ويصدح بأفكار معادة، ويدور في دائرة واحدة، ولو أشحت بحضورك عنه شهورا مديدة، ثم قفلت إليه آيبا لألفيته يعزف على الوتر ذاته، ويستدعي أمثلة وتشبيهات هي ذاتها لا تحوير فيها ولا تعديل. إنه لا يبدع جديدا وإنما يقرأ ما سطر له ويطرح توصيات أمليت عليه، هذا النوع يتعاطى مع الخطابة كواجب وظيفي، مزحزحا لها عن سياقها الصحيح كفعل تصحيحي يستدعي كل اهتمام.. أحيانا قد تكون الخطبة خارج نسقها الزماني والمكاني، وذلك عندما يعاني الخطيب من ضآلة وعي في الجانب السياسي أو الاجتماعي أو الدولي مما يلقي بظلاله على أدعية هذا الخطيب، فقد يختم بعض الخطباء بالدعاء على الكفار والملحدين، من الأمريكان والشيوعيين، ولا يعلم أن الشيوعية سقطت مع سقوط جدار برلين في بداية التسعينيات!!. طبعا ثمة خطباء كثيرون منذ سنوات طويلة وهم يصعدون المنبر ولكنهم لم يقدموا شيئا يذكر للمصلين، ومع ذلك تتقاطر عليهم الجموع من كل حدب وصوب، ويتنامى رصيدهم الجماهيري، لا لعلو سقف كفاءتهم المعرفي، ولا لعمق طرحهم الدعوي، وإنما لمجرد اختصارهم في الخطبة، وعدم إطالتهم!؛ مثل هذا الخطيب لوكان يهتم بتقديم مادة معرفية، وإضافة توعوية، كما يهتم بنوعية البشت الذي يرتديه، لوكان كذلك لباتت خطبه عبارة عن دورات علمية مكثفة تبني العقول، وتؤسس للمفاهيم الحيوية البناءة.
إن الخطابة علم له مقوماته وأسلوب له تقنياته ومنهج له اشتراطاته. إنها صناعة فكرية لها متخصصوها والأدرى بشعابها، إنها مفردة بنائية يجري عبرها توصيل الأفكار وتشكيل العقول وزراعة الاهتمامات الحيوية وصناعة الذوق العام وتأمين المناخ لعملية اليقظة والتحول من مجتمع العاطفة القطيعي إلى مجتمع البصيرة العقلاني. الخطيب الذي يتحلى بدرجة عالية من البراعة، هو ذلك الذي يخاطب القلوب والعقول في آن واحد، ويمتلك قدرة كافية على الجدل الاقناعي، واستمالة الحضور، لديه ثقافة واسعة في أمورالدين وفي قضايا المجتمع، مع وعي دقيق لطبيعة التفكير الجمعي وبصيرة مفصلة بالظروف المحيطة يدرك جراءها المواضيع الملائمة للطرح فيصطفي مواضيعه عن قناعة لا عن ضغوط الشارع، ويعرف كيف يمس أعماق الناس الوجدانية والفكرية والاجتماعية.
إن الراصد الاستقصائي لخطب الجمعة اليوم تلفت انتباهه عدة تمظهرات تستوقفه وتحدث لديه نوعا من التساؤل الذي يفرض نفسه كواقع عليه، من هذه الملاحظات ما يلي: أولاً: عدم مراعاة نوعية الذهنية المتلقية، عملية الخطبة عملية ثنائية يشترك فيها مرسل ومستقبل وعدم تفاعل أحد العنصرين يصادر الغاية المتوخاة من الخطبة، ولذا فمن مهمات الخطيب أن يكون واعيا بالشرائح الاجتماعية المتباينة التي ترتاد مسجده ليباشر اصطفاء الموضوع الملائم وانتقاء اللغة المناسبة. مع أهمية التوازن والاعتدال في الترغيب والترهيب، فهناك نوع من الخطباء يختزل الحياة في نقاطها الكالحة السواد، على نحو يحدو به إلى أن يتوسل الترهيب، فلا يعتمد إلا هو، وبالقدر ذاته يتجافى عن الترغيب، فيكثر من الصراخ في وجوه المصلين، يتوعدهم، ويقنطهم، ويحطم كل جوانب الأمل لديهم، ويعدهم بالويل والثبور، ويهددهم بنار شديدة اللظى، تشوي جلودهم، وتحرق وجوههم، ينتحبون فيها، ويصطلون في جنباتها، ولهم فيها عويل!!، وهكذا يتولد لدى المصلي شعور بأنه لم يخلق إلا للنار!، لأنه جنى على نفسه، فهو ليس إلا كتلة صلدة من الأخطاء، وجبل جليدي من العيوب!، وفي المقابل هناك من لا يعرف إلا أسلوب الترغيب، ولا يعاين إلا الجانب المشرق في الحياة، يركز على الوعد، ويهمل جانب الوعيد، فيُدخل الناس كلهم ، وعن بكرة أبيهم إلى الجنة، لا، بل وإضافة إلى ذلك، أنه يدخلهم إياها بلا حساب ولا عذاب!، الاتزان وعدم المبالغة في مسلكي الترغيب والترهيب، وبث الخوف تارة، وإشاعة الرجاء تارة أخرى، مطلب جوهري، ومسلك نبوي، يجب وضعه دوما في الحسبان، والحكمة كما يقال: هي وضع الشيء في موضعه.
ثانياً: الإطالة المملة، فبعض الخطباء يعتقد أن الإطالة في الخطبة شأن يحمد عليه الخطيب فيطيل على نحو يورث الضجر ويقلل من تفاعل الجمهور الذي ربما غط في سبات عميق كنوع من الهروب عن هذا الخطيب الذي يهدر - بوعي أو بلا وعي - قيمة هذا المنبر الذي يعتلي عليه.
ثالثا: عدم الانسجام بين الانفعال والموضوع، ثمة ضرب من الخطباء يفتعل الانفعال على نحوفيه الكثيرمن المبالغة مما يؤثر من شأنه سلبا على المتلقي فيرفض المعنى المطروح ويشيح بوجهه عنه وعلى النقيض من ذلك فثمة لون آخر يلقي المعاني الحارة الساخنة ببرود قاتل فيطفئ من تألقها ويقلل من وهجها ويجعلها محصورة لاتتجاوز الآذان، إن بناء لأفكار والاستنتاجات على أسس منطقية مقنعة، ونقل الكلمة إلى المتلقي بظلالها وإيحاءاتها وإيصالها إليه حية مفعمة بالعاطفة الملائمة موهبة فذة وفن لا يتقنه إلا البارعون وقليل ما هم.
رابعاً: استغلال موقع التأثير لتصفية الحسابات. ثمة من يستهلك المنبر ويوظفه لمناصرة حزب أوشخص ما، ومناهضة آخر بإقصائه، وإلغاء حضوره، وهنا يتم إشغال الجماهير بقضايا هامشية وشؤون ثانوية ليس المنبر هو مكان طرحها اللائق!!. إنه لابد في سبيل تطوير خطبة الجمعة والارتقاء بها، لابد أولا: من إنشاء معاهد مهمتها إعداد الخطباء، وتأهيلهم والنهوض بشخصياتهم الثقافية ومدهم بالمقومات اللازمة لنجاحهم، والتقويم المستمر لهم للارتقاء بكفاءاتهم. والتجديد كل فترة معينة للخطيب على أن يتم هذا التجديد وفق أسس وضوابط تحددها الجهة المعنية في وزارة الشؤون الإسلامية.
ثانياً: الاستفادة من الخطباء المتمرسين الذين لهم باع طويل في مجال الخطابة من خلال تأليفهم للكتب المتخصصة في هذا المجال وإعداد الأشرطة السمعية ووضعها في متناول اليد ليستهدي بها الخطباء المبتدئون.
ثالثا: توظيف وسائل التقنية الحديثة في الخطبة، وإقامة صناديق استفتاء في كل مسجد لتلمس آراء الجمهور ومعرفة انطباعاتهم عن الخطبة وملاحظاتهم على الخطيب، ورؤيتهم للمواضيع التي يرشحون طرحها، ليجري جراء ذلك، النقد الذاتي البناء، وبالتالي رفع سوية الخطب، وتحسين مستوى أدائها العام.
Abdalla_2015@hotmail. com