أرقص في نشوة وحبور حين أزور أحد معارض الفن الحديث في أي بلد من العالم وتظل طرق التعبير المبتكرة وغير المألوفة عالقة في ذاكراتي حتى تطوي بعض منها زيارة جديدة لأشكال مختلفة من التعبير تحفل بها متاحف العالم ومؤسساته الثقافية والعلمية.
وهو الأمر نفسه حين أسمع عن شكل من أشكال التعبير الجديدة التي تظهر في العالم كل يوم بفعل عوامل التقنية المتقدمة.
في اليابان ظهر شكل من أشكال الفن الروائي التلفوني عبر الرسائل النصية القصيرة ابتدعته كاتبة شابة تكتب أدبها وترسله عبر تلفونها وبشكل مجاني لكل من يرغب وهي تكتب ليس من مكتب أو ناد أدبي أو حتى من غرفة نومها بل من القطارات ومحطات الباصات ووسائل النقل المختلفة التي تستخدمها وتتنقل فيها طوال يومها ولترسل في لحظتها ما تكتب مباشرة إلى الآلاف الذين يتناقلونه عبر جوالاتهم بحيث برعت في سرعة خارقة في كتابة الرسائل النصية عبر الجوال حتى أصبحت أسرع من يكتب رسالة نصية ولم يكن ذلك بالطبع يحقق مالا لأحد سوى شركات الاتصال حتى قيض الله لها ناشرا التقط ما تكتب وطبعه في طبعات شعبية بعد أن لاحظ انتشاره وخاصة بين المراهقات مما جعل رواياتها ثالث أكثر الكتب شعبية وانتشارا في اليابان اليوم!
هذه الظاهرة تقودنا إلى ملاحظة ظاهرة أكبر وأعم وهي كل أشكال التعبير الفني والثقافي والأدبي والتكنولوجي التي تخلقها الأجيال الجديدة ويطلقونها عبر فضاء الإنترنت من خلال المواقع التي يقومون بخلقها والإشراف عليها وتحديد الشروط للانضمام لها ورعاية المواهب فيها.
وقد قام معهد الأم أي تي المشهور في الولايات المتحدة بإصدار عدد من الدراسات حول ما أسماه بظاهرة الثقافة التشاركية والتي تعني كل أشكال لتعبير الفني والأدبي الذي يوجد في فضاء الإنترنت وأحد هذه الدراسات هو ما أسماه المعهد: بمقابلة تحديات الثقافة التشاركية والتي وجد من خلالها أن أكثر من نصف المراهقين المستخدمين للإنترنت في الولايات المتحدة قد قاموا بإنتاج مواد خاصة بهم ووضعوها على النت كما قام أكثر من الثلث بمشاركة آخرين في مواد قاموا بإنتاجها بغية تحسينها عن طريق الاستفادة من خبرات الآخرين المشاركين في هذه المنتديات ممن قد تتوافر لهم خبرة تمكنهم من تقديم النصح والمشورة
كل ذلك خلق مصطلحا جديدا في عالم المعرفة والتعلم يمكن اصطلاحا أن نطلق عليه مصطلح الثقافة التشاركية والتي تعني ثقافة مشتركة عبر وسائط الإنترنت لكل أشكال التعبير الفني والأدبي والتكنولوجي سواء كان ذلك تصويراً أو رسماً أو شعراً أو فناً وقصة ورواية أو صوراً يتم خلقها وتداولها خارج أطر وشروط المؤسسات التعليمية أو الأكاديمية التقليدية وبذا فلا حدود فيها للتعبير الفني أو الابتكار بل إن أكثر ما يميزها هو شعور أعضائها بالقبول ضمن شروط المنتدى الذي قاموا بوضع شروط الانضمام له وذلك عبر الدعم والتعديل غير المباشر الذي يقوم به الأعضاء المشاركون في المنتدى للمواد الموضوعة
نحن إذن أمام ظاهرة جديدة لإنتاج العقل البشري ولما نسميه الإبداع الفني أو الأدبي أو التكنولوجي والذي لم يعد فرديا كما تعارفت عليه البشرية منذ خلقها بقدر ما أصبح يعبر عن ملكية جماعية للذكاء والإنتاج العقلي الذي بدأ يأخذ أشكالا جماعية أكثر من الفردية بسبب طرحه في فضاء الإنترنت بما يتيح تعاونا بين الأعضاء المشاركين في إنتاجه وتاليا ملكية جماعية للمواد المنتجة.
إلى جانب آخر نلحظ أن هذه الثقافة التشاركية قد بدأت ترسخ لمفاهيم داعمة للمواطنة والمشاركة العامة لا تخضع للقوانين الحكومية فالأفراد يخلقون المواقع ويحددون شروط الانضمام إليها ويتمكن التابعون لها من التعبير عن وجهات نظرهم دون الالتزام بالقيود الحكومية المتعارف عليها مما يعني طرح مفاهيم جديدة للمشاركة العامة تقوم هذه الثقافة التشاركية بتدريب المواطنين عليها إضافة إلى أن القدرة على المشاركة والقدرة على التعبير والقدرة على العمل ضمن مجموعات.. كلها مهارات يتطلبها دور المواطنة في العصر الحديث.
ما الدلالات التي تفرضها ظاهرة كهذه؟
* ما نحصل عليه من مواد وأخبار وإنتاج فكري وفني وأدبي لم نعد نحصل عليه من خلال الوسائل التقليدية من مدرسة وتلفزيون وراديو وجريدة سيارة... وهو الأمر الذي ساعد على تحرر معظم أشكال التعبير الإنساني المختلفة من سلطة المجتمعات التقليدية ومن سلطة الحكومات الرسمية وهو ما يعني في الواقع الفعلي عدم قدرة المجتمعات ومن يمثلها من حكومات أو مؤسسات قبلية أو دينية أو ثقافية على وضع قيودا أخلاقية أو ثقافية على ما ينتج في هذا الفضاء الواسع المسمى الإنترنت.
* السؤال الذي نطرحه للتداول هنا هو:
* كيف يمكن إذن الموازنة بين عدم القدرة على ضبط هذه المادة وضبط تسربها وبين محتواها - الذي نعرف أنه قد لا يتوافق مع الكثير من الأسس الدينية والاجتماعية التي نكرس كل الأنظمة التربوية والإعلامية والسياسية لتثبيتها وبين التوجه الثقافي والديني والسياسي العام لدينا الذي يميل في العادة للتعامل مع المواطن تحت مظلة الوصاية والمتابعة الأبوية والقبلية؟
* الباحثون الإعلاميون من أمثال البريطاني ديفيد بكنهام يرون أننا اليوم نعيش في عالم معقد ولا نملك إلا أن نعلم الكبار والصغار كيف يعيشون ويفهمون ويحللون الأحداث المحيطة بهم بحيث يتشكل لديهم قدرة على التحليل النقدي لما يمر بهم عبر وسائط الميديا المختلفة وإذا لم نعلمهم هذه المهارات فنحن نعمل على تشكيل جيل من المواطنين الجهلة والمستهلكين غير الناقدين الذين يسهل السيطرة عليهم بتقديم حجج واهية لا يمتلكون الآليات المناسبة لنقدها كما يسهل السيطرة عليهم من قبل آخرين أو اتجاهات وذلك عبر كل الأشكال المتاحة للاتصالات في عصرنا الحاضر.
* إن الرسالة الحقيقية التي تطرق أبوابنا بعنف هي هذه التي تنادي بضرورة الإيمان بالمواطن الرشيد القادر على اتخاذ قرارات راشدة تحميه وتحمي مجتمعه بدل التعامل مع الجميع بعصا السلطة المطلقة وافتراض التسليم المسبق للمؤسسات الرسمية وطروحاتها وهو ما لا يحدث اليوم... إنها ضريبة العولمة التي أنتجت شعوبا تبحث عن مفاهيم داعمة للمشاركة المجتمعية بدل أن تعامل (كشعوب لا تزال غير ناضجة للمشاركة السياسية).