مر المجتمع السعودي بأزمات وعي اقتصادي متعددة، وخسر كثيراً بسبب تدني وعيه الاقتصادي، والذي كان نتاجاً طبيعياً لفقر المعرفة في جزيرة العرب في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط، ومع دخول عصر الطفرة حدث تطور محدود في الخلفية المعرفية،..........................
لكنها كانت مكبلة إن صح التعبير ببعض التعاليم أو التقاليد النجدية التي من أهم مبادئها (حط بينك وبين النار مطوع).. أي فتوى تحرره من محافظته، وإن كانت تدفعه إلى مهب الريح، وهذه إشارة أولاً لفطرته الإسلامية النقية، وثانياً لخلو ثقافته من طبيعة القلق المعرفي، فهو يتكل تماماً على الفتوى الدينية من أجل تسيير حياته الدنيوية.
كان من أهم هذه الأزمات موقفه الديني من القروض البنكية، وكيف كان يرفض هذا المبدأ نتيجة لحرمة القرض الذي يسدده بفوائد طويلة الأجل، وكان الحل التجاري (الشاطر) يكمن في كيفية فك حرمة القرض البنكي، وهو ما أدى إلى خروج ما يطلق عليه نظرياً بالاقتصاد الإسلامي، والذي يؤسلم القرض من خلال عملية ملتوية، لكن المنتج النهائي هو القرض بكل ما يحمله من فوائد طويلة الأجل، والتي غالباً ما تقتطع جزءاً من دخل المواطن الشهري من أجل تسديدها بفوائدها العالية على فترات طويلة الأجل..
كانت الكارثة في ذروتها فيما بعد مرحلة طفرة سوق الأسهم.. الطفرة التي ساعدت كثيراً في رفع قيمة القروض الشخصية إلى مبالغ غير مسبوقة، ولم تحرك مؤسسة النقد السعودي أثناءها ساكناً عندما تهاوت آمال المواطنين بسبب انهيار السوق.. يتفق المحللون الاقتصاديون أن مؤسسة النقد وما قدمته من حماية وتسهيلات للبنوك تتحمل ما حدث.. لكن لا حياة لمن تنادي...
في يونيو 2008م، (نفى نائب المحافظ في مؤسسة النقد السعودي تعرض البنوك السعودية لأزمة الرهن العقاري العالمية نتيجة تبنيها سياسة محافظة)، لكن هذه السياسة لم تكن محافظة على الإطلاق عندما استخدمت مختلف وسائل الإغراء لإخراج المواطن من مبادئه المحافظة تجاه البنك، والتي كان نتيجتها مئات المليارات من الديون على الأفراد..
لكن الأجواء الاقتصادية منذ ذلك التصريح أصبحت تُعد تدريجياً من أجل تطبيق مرحلة الرهن العقاري محلياً، والتي ستمكن المواطن من امتلاك منزل في المستقبل حسب الإعلانات التي تهيئ للمرحلة القادمة، وسيكون دور البنوك والمؤسسات المالية الأخرى تقديم الرهون بعد أن تتأكد من أن الممتلكات العقارية التي يتم رهنها غير مغالى فيها، وأن يكون للمقترض سجلا سابقا من الحساب الاستداني الجيد ودخلا كافيا للقيام بمدفوعات الرهن..
المفارقة أننا نتهيأ للدخول في هذه المرحلة بينما أزمة الرهن العقاري العالمي لم تخرج من محنتها بعد، والتي ظهرت على الأفق بسبب ظهور سوق لتداول الرهون، مما شجع البنوك في إصدار مزيد من الرهون ثم بيعها لمؤسسات مالية مما وفر لها سوقا جاهزة يتم به إعادة بيع الرهون مع الحصول على الربح، لتهبط مستويات ومعايير الائتمان على مدى السنوات، وتحدث الكارثة الاقتصادية على الجميع بدون استثناء.
يهيئ التصعيد الحالي لأسعار الأراضي وغلاء مواد البناء مثل الحديد وغيرها الأرضية المناسبة لفكر المؤامرة لكي يستعرض عضلاته في ظل الارتفاع المتواصل لتكاليف بناء المنازل للأفراد، والذي أخرج نسبة عالية من الطبقة المتوسطة من التخطيط لبناء منزل من خلال الطريقة التقليدية المتعارف عليها، وأيضاً إلى خروج صغار المقاولين من سوق بناء المنازل للمواطنين، وفي أثناء هذا الانحسار ظهرت على السطح مشروعات عملاقة لبناء أحياء سكنية في مختلف المناطق وكأن الوضع بالفعل يتهيأ عن قصد في اتجاه سوق الرهن العقاري، فالمواطن في ظل هذا الغلاء للأراضي ولأسعار مواد البناء لن يستطيع بناء منزل وعليه أن يتجه قسراً إلى التخطيط لامتلاك منزل من خلال مؤسسات الرهن العقاري.
في ظل هذه الأزمات المعرفية والاقتصادية من المفترض أن يتم تثقيف المواطن أولاً عن الرهن العقاري وأن يشارك المفكرون الاقتصاديون في شرح إيجابيات ومساوئ هذا النظام، وألا يتم تطبيق الرهن العقاري في ظل هذا التضخم المبالغ فيه في الأسعار.. أيضاً على المؤسسات المالية الرسمية أن تدرك أن المواطن ليس لديه أي خلفية معرفية عن الرهن العقاري وما حدث لها من أزمات، وألا يُستغل جهله المعرفي في هذا الشأن..
فالمواطن في ظل الوعي الحاضر يعتقد أنه يحتاج فقط إلى فتوى (مطوع) للإقدام على رهن جزء من دخله المالي ومستقبل أبنائه إذا تمت إجازة الرهن العقاري شرعياً وأنه لا إثم عليه، وإن خسر ما يملك مثلما حدث في سوق الأسهم.. ولئلا تتكرر الكارثة يحتاج استشارات اقتصادية وحماية قانونية لكي تحميه من نار الدنيا وتوحش أنظمتها الاقتصادية المتحررة من الأخلاق والبعد الاجتماعي.