يتربع الجميع منا على مهن مختلفة يشكل كل منها ما يكون المجتمع بتعريفه الفلسفي. فالمجتمع يتكون بمجموعة من المقومات الاجتماعية والسياسية والديموغرافية والاقتصادية والجغرافية - التي عرفها منظروا علوم الاجتماع ابتداء من أرسطو وأفلاطون ومرورا ب Durkheim وSmith وDescart- والتي من أبرزها تقسيم الوظائف والمهن بما يبعث الحياة في المجتمعات والشعوب ويقيم مصالحها. فلا بد من عمل المزارع بفلاحة الأرض لإنتاج القمح الذي يحوله الخباز إلى رغيف يقيم أود السائق الذي ينقل الطبيب إلى عيادته لمداواة المزارع حين يمرض. وهكذا فهناك سلاسل غير منتهية, خطية ومترابطة متكاملة ومتشابكة, ضمن المجتمعات من المهن مما يعطي للمجتمع واحدا من تعريفاته المهمة وهو (التقسيم الوظائفي) division of labour ليكون (مجتمعا) بتعريفه. وفي نفس السلسلة الواحدة هناك ما لا يحصى من الوظائف التي تكمل عمل بعضها البعض, فهناك من يحرس المزرعة والمهندس الزراعي الذي يقدم علمه وخبرته لحماية وتحسين المحاصيل. وعلى مستويات أخرى هناك الكاتب المفكر لتقييم ما اعوج أو إصلاح ما فسد, أو الضحاك أو الرياضي للتسرية والتسلية, أو الواعظ الناصح المنادي بمجتمع فاضل أو أفضل. وبين هذه المهنة أو تلك يعمل المجتمع على خلق توازن دقيق بين المهن المختلفة لمعادلة ما قد يصيبه من آفات وظيفية مجتمعية. ففي مقابل المهن (السلبية) كاللصوصية يبتدع المجتمع وظائف (موجبة) كالحراسة والبوليسية والنظام القضائي. وبذا ففي الوضع الطبيعي للمجتمعات هناك توازن استراتيجي دقيق قائم على مبدأ الحاجة والطلب لمهنة ما كي يتم ملؤها من قبل أبناء المجتمع الواحد. ومن هنا فلا فضل لطبيب على خباز أو سائق إلا بكده وجده واجتهاده في مهنته. فكل المهن هي حلقة متصلة تؤدي إلى ازدهار المجتمع وتقدمه. وكل سيد وملك في مهنته وله فضل على مجتمعه بما يقدمه من قليل أو كثير. ولا فضل لمهنة على أخرى, فالكل بمهنته مهما كانت يخدم مصالح المجتمع, وغيابها يؤدي لخلل ما. فوجود عامل النظافة في المجتمع هو بأهمية الطبيب والسياسي والمعلم سواء بسواء. فالمهن بشكلها الفلسفي المجرد هي توازن دقيق بين حاجات المجتمع وبين الآفات التي تصيبه, حيث تعمل المهن المختلفة على تلبية ما يلزم حياة المجتمع ومكافحة السلبيات التي تهدد مصالحه.
وفي مقابل تلك المقدمة المنطقية تبرز مجموعات من الأسئلة تتعلق بواقع المهن في المجتمعات العربية الحديثة. فما هي العلاقة بين نظرة العقل العربي للمهن وبين تردي الإنتاج وتدهور النهضة في العالم العربي؟ وهل من علاقة مباشرة بين عدم وجود الرجل المناسب في المكان المناسب وبين نظرة المجتمعات العربية للوظائف والمهن؟ وهل من علاقة سببية بين تنمية المواهب في النظام التعليمي العربي وبين الالتحاق بالتخصصات المختلفة في الجامعات ومعاهد العلم؟ جميع هذه التساؤلات وغيرها متعلقة تعلقا مباشرا - برأينا - من نظرة المجتمعات العربية لمفهوم المهن (النبيلة), فما هي؟
في معرض الإجابة نجد أن ما يدور رحاه في أوساط المجتمعات في العالم الثالث هو أفضلية بعض المهن على أخرى لاعتبارات (طبقية مادية محضة). فالطالب في نهاية مرحلة الثانوية العامة يرنو وتشرئب عنقه وعنق (فصيلته التي تؤويه) كي يلتحق بمهنة (تنشل) قبيلته جمعاء من المدار الذي تدور في فلكه لتنتقل إلى مدار أعلى فتفرز الغالي والنفيس من أجل ذلك كما تفرز الإلكترونات طاقة حين تنتقل من مدار إلى آخر داخل الذرة. وقد (فصل) المجتمع لذلك مجموعة من المهن التي تعد (برجوازية) تنظر بعلياء واشمئزاز وازدراء على بقية المهن الأخرى بالمجتمع. وما يزال المجتمع يدفع بالطالب النجيب إلى الالتحاق بإحدى هذه (المهن النبيلة) فيقضي سني عمره خلف الكتاب والقراءة وما تلبث سماكة نظارة القراءة لديه تزيد شيئا فشيئا إلى أن يؤول بها الحال أن تصبح بسماكة ( قعر كوب الشاي). وإن أدمن الطالب على القراءة والعلم, سجل رقما قياسيا في موسوعة جينس للأرقام القياسية, بأن أكمل تعليمه العالي ليحصل على سماكة نظارة أكبر. فماذا تكون النتيجة؟
الطريف والمثير للسخرية أن هذه المجتمعات في العالم الثالث تنظر بنظرة متغايرة ومتناقضة للمهن (النبيلة", فهي تمجدها من جهة تنظر إليها باستخفاف من جهة ثانية. كيف ذلك؟ الطريف والمؤلم أو إن شئتم التناقض النكد الذي تعاني منه مجتمعات العالم الثالث هو أنها تحض المتفوقين من أبنائها إلى الالتحاق بدراسة مهنة يقضي فيها سني عمره ونور عينيه فيما تقوم بإعطاء المهن (غير النبيلة) ما تستحقه من التقييم. وهذا التمييز الجدلي بين (النبيلة) و"غير النبيلة) ينبثق من فرضية هذا المقال وتقييم بعض المجتمعات. فكل المهن نبيلة في إدراكات العالم المتطور والصناعي. ففيما تنظر للسباك على أنه عامل شريف يعمل بعرق جبينه تنظر نفس هذه المجتمعات في العالم الثالث إلى المحامي على أنه نصاب يأكل بتدليس لسانه. ففيما تدفع للأول أجره الذي يقتات منه برضا وسخاء تنظر للمحامي على أنه لص يسرق قوت يومه وعلى الأخير أن ينتزع أجره انتزاعا, إذ ما هي الخدمة التي يقدمها هذا المحامي (اللص) الذي يقبع خلف مكتبه؟ ولذلك فمسكين من يحترف مهنة (نبيلة) في مجتمع من العالم الثالث! فالمحامي في مجتمع العالم الثالث هو (شحاد) يسعى لتحصيل لقمته, فيما هي المهنة رقم واحد في أمريكا أجرا واعتبارا. وعلى نفس المنوال تذهب الناس للطبيب - وهو أحسن حالا من المهندس إذ يلجأ إليه الناس مضطرين فيما يذهبون للمهندس التعس في سعة من أمرهم - فتدفع له أتعابه كارهين وإن كان فعلا يؤدي مهنة الطب بشرف وإنسانية يتوقع البعض ويطمح أن يعالجهم دون أتعاب. وإن طلب قوت يومه ينظر له البعض على أنه مادي. وبالمقابل يذهب أحدهم للخياط لتفصيل بدلة قد لا يلبسها إلا مرتين طوال حياته فيدفع له أجره مع البقشيش برضا. نفس هذه المجتمعات تنبذ التمثيل والممثلين والفنانين لكنها وللسخرية تدفع لهم رواتبهم الباهظة فيما تشاهده على الشاشات الصغيرة والكبيرة.
أما فيما يخص المعماري والعمارة, فالكل - وللسخرية - يفهم في أمور البناء والعمارة. وسنوات الدراسة والتمرين والتدريب التي تلقاها المعماري الكفؤ تنمحي بلحظة أمام الزبون الماهر الذي لا يريد سوى (مخطط صغير يعطيه للبناء أو للبلدية من أجل الترخيص). ولقاء ذلك (يرمي) هذا الزبون الحاذق ثمن بخس دراهم معدودة على هذا المعماري (كصدقة عن روح الأموات من عائلته).
وللإنصاف فالمشكلة متعددة الجوانب وليس الملوم فقط هذا (الزبون اللئيم الجاهل). المشكلة تبدأ وتنتهي بالمعماري نفسه. فمن لا يحترم نفسه لا يحترمه الآخرون, ومن لا يقيم وزنا لمهنته لا يتوقع من (زبون جاهل) أن يقيمه حق التقييم. فالزبون لا يرى لقاء (بضعة دراهمه سوى مجموعة من الخطوط التي يفهمها أو قد لا يفهمها. ولا يدري هذا التعس أنه فيما يدفع لبقية المهن (غير النبيلة) الأخرى التي ستبني له بيته أضعاف ما يدفعه للمعماري, إلا أن خطوط المعماري ومخططه (البسيط) سيحدد حياته ونفسيته وسلوكياته الاجتماعية داخل بيته. ولذلك كم من (زبون) أدرك أن المخطط الذي (استرخصه) قد انبثقت عنه مجموعة لا نهاية لها من المشاكل ما فطن لها إلا بعد سكناه للبيت. ويستحق ذلك هذا اللئيم جزاء وفاقا! إذ كما أنه قد يظن أنه قد خادع نفسه وخادع المعماري فإن هذا المعماري - ممن لا خلاق لهم من العلم أو الأمانة - قد أعطاه من الرسومات ما يساوي دراهمه البخسة. وحل المشكلة يكمن في عدة محاور: الأول وتبدأ من المعماري والعمارة كمهنة يقضي الطالب سنوات شبابه وزهرة عمره بدراستها وإتقان فنها. فليحترم المعماري نفسه ومهنته وليقيم لقمة عيشه بما تستحقه. وفضلا عن ذلك ليكف المعماريون ذوي (الأيدي الرخيصة) من تدنيس المهنة في الوحل وتقديم مخططات رخيصة لا فن فيها ولا ذوق لقاء أتعاب بخسة. الثاني وتخص النقابات المهنية والهندسية التي تعيد للمهنة ما تستحقه من التقدير بفرض حد أدنى للأتعاب الهندسية وكذلك لنوعية المخططات المقدمة وتوقيع الغرامات على المهندسين أو المعماريين المخالفين. والثالث والأهم هي دعوة لأصحاب العمل والزبائن للقيام بدورهم. على المالك أو صاحب العمل القيام (بوظيفته البيتية) والإطلاع على ما يناسب من المخططات المعمارية التي تناسب المحيط والثقافة العربية والإسلامية. لو نظر المالك إلى العمارة على أنها حضارة وثقافة وليست مجموعة من الخطوط والأبواب والشبابيك لنحت العمارة العربية منحى آخر أفضل مما هي فيه الآن. المالك والزبون لا تقل أهميته عن أهمية العمل ذاته. بل إنه في الحقيقة يقف وراء الأعمال المعمارية المتميزة في العالم العربي.