رأيتها في طريق عودتي من سفر، امرأة يمنية ممدة على الكثبان الرملية، كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وتلوّح للحياة بكفّ الموت.
أخذت تُحدّقُ في البعيد
خيط من الألق ِالجميل يُمدُّ
من عهد الجدائل والضِفاف
الذكريات الحُمْر تلفظها الشوارعُ
في طريق الراحلينَ
كأن أمّاً تستفيقُ على صراخِ صغيرةٍ
للتوّ غازلها الحنينُ إلى النجومِ
وقطة الحيِّ القديمِ
تموءُ في ليلٍ شتائيٍّ شفيفٍ
ناعس الشُطآن
يرقدُ عند بحركِ يا (عَدَن)
ما زالت الشُرفاتُ تفضحُ عُريَها الفتّانَ
أضواءُ القمرْ
وهدير (نهّامٍ) تحنّ له البواخرُ
يرتمي في مسمعي
للآنَ يطرقُ صوتُه العدنيُّ
آذانَ النوارسِ والقلوع
***
أين اصطفاقُ الموجِ
والعشقُ المعتّقُ فوق شطآن اليمن؟
هذي الغريبة هاهنا
تمثال أيامٍ على مرمى الرياح الزائرات
تنسلُّ من ألق الوجود للاوجود
للازمان ولا مكان
والرّملُ أمواجٌ غِضاب
تتقاذفُ الصيحاتِ
في بحر تقهقه فيه عاصفة الشتات
تُباعد الكثبان عن وجه الرّحيل
والغرغراتُ صدىً يتمتم من بعيدٍ في كهوف الهالكينَ
تُغادر الصّلصال أزرق كالسّماءِ
تُعدُّ ما اسطاع الرّحيل من الألم
الحَشْرجاتُ تصكُّ سمعَ الرّيحِ
تنطقُ بالليالي والدروبِ
وتستعيدُ قوافلَ الأيامِ
تبكي في القِماط
هذا هو المهدُ القديم
قد عاد يرسف في القيودْ
في موكب الصُّور المُجَلجل في الوريد
كلُّ الوجوه أتت هنا !
من حولها
كل الشّوارع وازدحام السّيرِ في طُرق العذاب
كل المساءات الحزينة
والصباحات الضحوكة
والأصيل
***
ماذا ترى عيناكِ ؟؟
أيُعدُّ مِحرقَةَ الوجودِ لكِ الفناءُ ؟!
على رمادٍ لا يُفيق
يا طائر الفينيق
ما جدوى الرماد ؟
ذرّتهُ أرواحٌ تُحلقُ فوقَ وديانِ السّديم
***
ماذا ترى عيناكِ ؟.. ناراً ؟؟
أم دُخانَ الأزمنة ؟
تتصاعدُ الأيامُ فيه على السواء
من القبور
أترَينَ أروقة الحياة تضيقُ حتى تختنق ؟
بالعابرين إلى الظلام
بالحاملين رئاتهم يقفون آثار الهواء
هل كلهم جاؤوا هنا ؟
عقدوا التراب على الجبين وأقبلوا
لهباً تراقصَ في السراب
***
مسكينة، ما تنظرين ؟!
وتُتَمْتِمين ؟!
بما ؟؟
وصوتُكِ لا يُجيدُ سوى لُغاتٍ من سَفَرْ
الثَّغر كهْفٌ تصهلُ الأمواتُ فيه كما تشاء ْ
والغائراتُ عيونُك البيضاءُ
غادرها السوادْ
نحو الضفاف الأخرياتْ
للانعتاق
قد لوّنتها ريشة الأكفان باللون النقي
فلْتَجمعي القَلقَ القديمَ من الترابْ
ولترحلي !
هذي الأجنّةُ فوقَ أرصِفة الفناء
مدّوا الأكفَّ وجهزوا لحداً يُضاف إلى اللّحود
الرّوحُ تُسرج خيلها نحو الأبد
حيث ازدحام المستحيل على زوارق
من تراب
***
لا تنظري لي وارحلي !!
إني أرى لَحْدي بعينيكِ الحزينةِ !
أغمضي !
أخشى الغروب
أخشى التلاشي في العدم
أحداقُكِ الجوفاء قبرٌ مُستطيل
خطّتْ زواياهُ الغليظةَ في الخفاء
كفُّ الشقاء
يمْتدُّ كالترحال يَرسِفُ في قيودٍ من ضياعٍ
لا يؤوب
مَدّت لي الأموات كفّاً من كُفوفكِ
فاسكني
إني أخاف
عيناكِ تنسجني كفن !!