قرأت قبل أيام إعلاناً عن قرب إطلاق خدمة صوتية على الجوال، تحتوي على فتاوى وأحكام شرعية ونصائح، لأحد مشايخ الصحويين الأجانب -سوري الجنسية- المقيمين في المملكة، وجاء في الإعلان أن (ثمن) هذه الخدمة أربعون هللة (يا بلاش!)، يدفعها المتصل يومياً (ويسفطها) الشيخ في جيبه. ولم يتم التأكد بعد هل أن الترخيص لهذه (التجارة) تم من خلال (الهيئة العامة للاستثمار) أم أن الثقة بهذا الشيخ أعفته من الترخيص!
هذا سؤال بودي لو أن المسؤولين في الهيئة العامة للاستثمار يجيبون عليه، كي يتأكد المستفيدون من هذه الخدمة أنها تمت بطريقة نظامية، وليس هناك أي تجاوز من قبل الشيخ لأنظمة المملكة المرعية في هذا الحقل الذي يقولون أنه يدر ذهباً!
والجديد لدى هذه المستثمر الأجنبي، أن الفتوى لم تعد كتابية، وإنما بالصوت، وبصوت الشيخ الأجنبي نفسه كما جاء في الإعلان. ولا أدري أمام المنافسة المحتدمة هذه الأيام بين تجار هذا (البزنس) من مشايخ الصحويين، هل سيقوم فضيلة الشيخ باستخدام تقنيات ومؤثرات صوتية تقنية، تجعل صوته -مثلاً- أكثر عذوبة وجاذبية وانسيابية، وبالتالي أقدر على الإقناع، وجذب (الزبائن)، من الأسلوب (التقليدي) المتبع في هذه التجارة، والتي عادة ما تكون فيه الفتوى مكتوبة من خلال رسائل الجوال؟
كل شيء جائز في هذا الزمن، خصوصاً في حُمى السعي اللاهث لاستغلال القلق الذي يسيطر على الإنسان المسلم في هذا العصر، فيقايضون بحثه الدائب عن الطمأنينة وصلاح أمر دينه ودنياه (بشفط) ما في جيبه.
والغريب أن بعضاً من هؤلاء الذين يُمارسون هذه التجارة ينتقدون القنوات الفضائية التي تعتمد على رسائل الجوال كدخل لها، انطلاقاً من أنها (نهب) غير مشروع للأموال؛ ثم يأتون دون أي قدر من الخجل، لينافسوا هذه القنوات، ويشاركون في (نهب) الأموال، بعد أن يتذرعوا بالدين والنصيحة؛ فمتى كان الدين والفتوى والموعظة الحسنة أداة للاتجار والإثراء وملء الجيوب بالأموال؟
أعرف أن كثيراً من علمائنا يقفون (نظرياً) ضد هذا الطمع والجشع والانتهازية القميئة. هذا ما يتداولونه في مجالسهم الخاصة حسب علمي؛ غير أنني حتى الآن لم أقرأ عن موقف (عملي) صدر من عالم واحد لكبح جماح هذه الممارسات (الاستغلالية) التي لا يمكن تبريرها دينياً؛ فلم يسبق لعالم من علماء المسلمين تاريخياً أن طلب من مستفتيه (ثمناً) نقدياً لفتواه كما يفعل أصحاب (بزنس) الفتاوى هؤلاء. عزوف علمائنا عن مواجهة هذه الممارسات المنحرفة التي لا تتناسب مع علو شأن الفتوى، أمرٌ محير بالفعل، ويثير الكثير من الأسئلة التي يطرحها الناس ولا يجدون من يجيب عليها!
لقد بلغ السيل الزبى، ووصلت الأمور حداً لا يمكن السكوت عليه. تدخل السلطات لوقف هذا الاستغلال الرخيص للدين أصبح قضية ملحة، خصوصاً وأن من يستغل الدين هذا الاستغلال البشع، ويطلب الناس بدفع أجرة للفتوى، لا يمكن -من حيث المبدأ- أن تأمنه على دينك ودنياك؛ لذلك فإن إيقاف هذه (المهازل) أمر لا مناص منه؛ فالسلطة من أولى مسؤولياتها أن تمنع الاستغلال والضحك على الذقون بشكل عام، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بأمر من أمور الدين الذي فيه عصمة أمرنا أولاً وأخيراً.