أصبح العالم بلدة صغيرة غارقة في الأزمات، وعند كل أزمة هناك صانعون لها ومستفيدون حتى لو كانت هذه الأزمة مجاعة عالمية، والعلماء بغفلتهم المعهودة هم من يشعل هذه الأزمات دون أن يدركوا ذلك أحياناً!.....
.....حيث يغرق العلماء باكتشافات جديدة تضاف إلى رصيدهم العلمي ويقصدون بها إسعاد العالم وحل أزماته, بينما صانعو الأزمات يلتقطون هذه الابتكارات ويحولونها إلى أسلحة اقتصادية جديدة، تصب في مصلحتهم بتحالف مع الأنظمة والشركات العالمية، وما يحدث الآن من أزمة غذاء هو مثال حي لاستغلال تلك المنجزات سلبياً، فبواسطة التقدم البيوتكنولوجي استطاع أولئك إنتاج الوقود الزراعي باستخلاص الإيثانول من النباتات ومنها الحبوب الزراعية بحجة أنه صديق للبيئة، ونسوا أن البشر الذين يشتركون معهم في هذا العالم هم أولى من تلك الصداقة المزعومة!
ويصر المنتجون بالاعتماد على الاعتقاد السائد خطأ بأن الوقود الحيوي يسهم في تقليل الانبعاث الحراري للغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، بينما تشير الدراسات العلمية إلى أن التوسع في زراعة محاصيل معينة للحصول على الوقود الحيوي سيكون له أضرار تفوق بكثير الانبعاث الحراري المصاحب لاستخدام الوقود الحفري بحسب دراستين نشرتهما مجلة Sci
ence العلمية في الأشهر الماضية,
وتخلص الدراستان إلى أن المناخ سيكون حاله أفضل إذا اقتصر الأمر على استخدام الوقود الحفري، فالوقود الحيوي ليس وسيلة من الأهمية بمكان يستدعي غض النظر عن مخاطره في مجال الحفاظ على المناخ!
وتشير الدراسات إلى أن الخطأ يكتنف مسألة استخدام الوقود الحيوي بكل جوانبه سواء اجتماعياً أو بيئياً أو اقتصادياً، كما أبرزت ذلك أزمة الغذاء، حيث اشتعلت النار في أسعار الحبوب بعد أن قل المعروض منها في السوق العالمية, وتذكر عدد من التقارير أن أسعار الحبوب سجلت على المستوى العالمي ارتفاعا خطيرا، بلغت نسبته 100% خلال الاثني عشر شهراً الماضية، وارتفعت أسعار السلع الغذائية بمعدل 10%، كما قفزت أسعار القمح الأوروبي إلى 190 يورو للطن مقارنة بـ130 يورو خلال ديسمبر الماضي، بالإضافة إلى أسباب أخرى مهمة كالزيادة في عدد السكان في العالم، وكذلك التطور الصناعي والعمراني الذي أدى إلى تقلص المساحات المزروعة، في الوقت الذي أسهم التغيير المناخي في إلغاء مساحات زراعية أخرى, وما شهده العالم في السنوات الأخيرة من ارتفاع في أسعار الأرز والقمح والذرة إلى مستويات قياسية كان أحد أهم أسبابه هو إنتاج الوقود الحيوي, ويعطي فول الصويا مثالاً لمنافسة الوقود الحيوي للإنسان والحيوان على غذائه، حيث تتجه الشركات المنتجة لهذا الوقود لاستغلاله بينما هو يمثل جزءاً مهماً من علف الماشية ولإنتاج زيت الطعام، وتصر تلك الشركات على ذلك على الرغم من وجود ما يسمى (الجيل الثاني) من الوقود الحيوي والذي ينتج من محاصيل غير غذائية ونفايات مما قد يخفف الحمل عن أسعار الغذاء لأن الكثير منه لا يزاحم الغذاء على الأرض, ويشار إلى نبات الجاتروفا كبديل محتمل لإنتاج الوقود الحيوي والذي يمكن إنتاجه أيضاً من عشب الحلفاء الصينية وعشب قصب الكناري، وتجدر الإشارة إلى أن الآراء منقسمة بشأن ما إذا كان الجيل الثاني من الوقود الحيوي سيخفف الضغط عن أسعار الغذاء أم لا، حيث يرى البعض أن الجيل الثاني من الوقود الحيوي قد يقلل المنافسة على الغذاء, ولكن محاصيله قد تنال أيضاً من مساحة الأرض المتاحة لزراعة الغذاء مما يؤكد استمرار القلق حول إنتاج هذا النوع من الوقود. والمفارقة العجيبة أن العديد من الدول التي يعاني مواطنوها من أزمة الغذاء الطاحنة تعتزم التوسع في استخدام الوقود الحيوي ومنها البرازيل والصين والهند, حيث تفيد مؤشرات بأن التوسع في إنتاج الوقود الحيوي بدأ يؤثر على أسواق المواد الغذائية؛ ففي البرازيل التي تتقدم دول العالم في إنتاج السكر، يذهب نحو نصف محصول القصب لإنتاج الإيثانول، مما قلل من قدرتها التصديرية وساهم في مضاعفة السعر العالمي لهذه السلعة الإستراتيجية، فضلاً عن أن أوروبا تخصص ما يفوق 40% من محصول بذر اللفت لإنتاج البيوديزل، مما أدى إلى ارتفاع سعره، هذا إلى جانب أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم نحو 15% من محصول الذرة الشامية لإنتاج الإيثانول وهو ما ساعد في تقليل نسبة الاحتياطي العالمي بمعدلات غير مسبوقة وقد ازداد إنتاج الذرة في العالم بمقدار 51 مليون طن بين عامي 2004 و2007م، وبحسب تقرير للبنك الدولي وخلال هذه الفترة ازداد إنتاج الوقود الحيوي في الولايات المتحدة وحدها بمقدار 50 مليون طن. وفي العام القادم من المتوقع أن يصل استهلاك الولايات المتحدة للذرة في إنتاج الوقود الحيوي إلى 114 مليون طن، وهو ما يوازي ثلث الإنتاج الأمريكي, وتقوم السيارات الأمريكية حالياً بإحراق ما يكفي لسد احتياج 82 دولة تصنف كدول منخفضة الدخل، تعاني من نقص الغذاء بحسب تصنيف منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، ولا تقتصر المعاناة على الدول الفقيرة فقط فحتى المستهلكين في الدول الغنية يعانون من ارتفاع الأسعار فهم يدفعون مبالغ أكبر للحصول على الغذاء في سبيل الإنفاق على التوسع في استخدام الوقود الحيوي.
إذن ليس غريباً أن يهيمن الجدل هذه الأيام حول الوقود الحيوي بعد أن أصبح الغذاء يذهب إلى بطون السيارات بدلاً من بطون البشر, مما حدا بالهيئات الدولية بالسعي إلى (قدر أكبر من الإجماع الدولي حول الوقود الحيوي), في سبيل عدم حدوث فوضى عالمية لا يريد أحد أن يتحمل مسؤوليتها، وقد تنفجر في مواجهات قد تأخذ منحى سياسياً، أو حروب قادمة سببها الغذاء ونتيجتها نقصه بشكل أكبر بالطبع!!