قراءة - عبدالله السمطي
تستهل القاصة سهام العبودي مجموعتها القصصية: (خيط ضوء يستدق) بقصة ذات دلالة إنسانية وجودية عميقة، ترتكز في تقديم عناصرها التأويلية على ما يكنزه الوعي الإنساني من حالات للمعرفة، ومن نهج لتلمس الأشياء، واستبطانها.
ففي هذه القصة التي تتصدر المجموعة نحن حيال سؤال الإنسان حيال أشياء الوجود، حتى وإن انطلق من المكونات الصغيرة البسيطة للتعبير عن ذاتيته وفردانيته، في القصة التي تحمل عنوان: (خيط ضوء يستدق.. أو جريد) والتي اشتق منها العنوان الكلي للمجموعة.في هذه القصة التي تسم شخصية الجدة التي ضعف بصرها إلى درجة أنها لم تعد تبصر، ترسم القاصة بشكل شفيف كيف تتعامل الجدة مع صناعتها البسيطة، بحنكة ودربة وكأنها لم تفقد بصرها، تظل للأصابع ذاكرة، إنها ذاكرة المرئي والمحسوس معا، التي تنسج من جريد سفرة أنيقة، بشكل فني مجدول: (لا تنبس يداها في الضحويات الواسعة سوى عن هتاف أصابعها بتسبيح دافئ، أو اخضرار باهت ينساب بين بلح يديها المخضّبتين.. يمتد جدائل عريضة تُخاتلها شرائط الكتان الجهيرة الألوان بحيث لا يبدو الجريد متوحدا تحت الضوء، وإذا استطالت الجدائل بقدر كاف عادت تعقصها دوائر ملولبة متحاضنة يُنشب رأس السفلى في قعر العليا مخلب من جريد حاد، وهكذا حتى تناديني لأحمل نتاج الضحى: سفرة أنيقة من الجريد.. كل هذا وهي لا ترى، تنبس يداها سفرا تكفي الحي كله، وتنبس شفة حيرتي) - ص.ص 5 - 6 إن العلاقة هنا كما تحددها القاصة هي علاقة تأمل وتساؤل وبراءة، من جانب الطفلة إزاء الجدة، هذه العلاقة التي تترى في فضاء من اليقين البريء، والتساؤل الدائم عن الكيفية، والماهية: كيفية نسج الجريد، وماهيته، من جانب الجدة التي لا تبصر، هذه هي الحركة الجوهرية التي تنسج حدث القصة برمتها، وهو ما دفع القاصة لأن تلوح في البداية بهذا السؤال: (كيف يمكنها جدل الجريد، وترتيب هذا النسيج وهي لا تراه؟)، وهنا تقرر الساردة التي تعود إلى زمن الطفولة، هذا التقرير: (هي تعرف أن لا شيء يعنيني هنا سوى جريدها، تتعمد أن تبالغ في مهارتها، وأنا أطوف بإصبعي على الدوائر الناتجة، المتقنة، حيث تموت الحواف، وتدفن البداية رأسها في رمل النهاية، قالت أخيرا: إنها لا يمكن أن تفقد الإحساس بالجريد، حيث يكون هو كل شيء، حين استدق ضوئها، كان ينحر عن سماء تتكشف بين جريد يتقاطع، عن مدى لا متناه من الأخضر). ص6 والتقابلات التي تصنع صيرورة الحياة، ففي ظل هذه الأفق المتضاد، تنبعث التصرفات والمواقف والتجارب الإنسانية التي تنبثق في الذوات المتعددة وتصرفاتها حيال الأشياء، وهنا فإن سهام العبودي لا تنقل لنا هذا التنوع بلغة سردية مباشرة، بل تحتفي بالكتابة المكثفة، واللغة السردية المشعرنة خاصة في المشاهد الوصفية، لا لكي تقدم نماذج وصفية شعرية يمكن اقتطاعها خارج النصوص، بل لتعمق الفعل النصي جماليا، وتعطيه أبعاده الأخرى، إلى حيث تقودنا هذه الأبعاد إلى تلقي العمل القصصي من خلال تأويله، وإعادة إنتاجه قرائيا، والتواصل مع الجمالية السردية في النصوص، لا التواصل المباشر مع الأحداث أو الشخصيات بالضرورة.
بنية الشكل:
تراوح سهام العبودي بين نمطين من البنى القصصية، تتمثل في كتابة القصة المركزة التي ترتكز على تكثيف السرد ولغته، والاعتماد على التجريد الشاف بديلا عن التفاصيل، وهي لذلك تحتفي بالجوهر الدلالي للنص، وتقديم بؤره الترميزية المخايلة، نزوعا للدخول في منطقة التأويل، لا منطقة الإخبار والتعريف.
ولقد جاءت قصص المجموعة في سياق نمطين: - الأول: القصة القصيرة المعهودة، بتراتبيتها السردية، حيث تحتوي المجموعة وفق هذا النمط على 11 قصة.
- الثاني: القصة القصيرة جدا التي تتراوح في هذه المجموعة ما بين سطرين كما في قصتي: (تمثيل إيمائي) و(قشرة موز) وبين أربعة أسطر كما في بقية القصص السبع التي تضمها المجموعة.
إن القاصة تقدم قصصها في هذه المجموعة بشكل طريف، حيث تأتي القصة الطويلة، تليها قصة قصيرة جدا، وهكذا حتى نهاية المجموعة، وربما يعبر ذلك عن فضاء مكاني - دلالي يعطي أن القاصة تقدم النص وظله، أو النص واللانص -إذا جاز الكلام-، نص ذو بنية مكتملة مفتوحة على التأويل، ونص آخر قصير جدا، يمثل ومضة سردية فلاشية، تترك للسؤال مطلقه، لكنها لا تفي بتأويل متكامل.
إنه الجدل الشكلي الذي يفرضه النص - مكانيا- عبر جماليات المطبوع، أو جماليات الصفحة السردية القصصية.
هذا الجدل الذي يبقى الأسئلة التأويلية قائمة لا على النص فحسب، بل على عتباته أيضا - بتعبير جيرار جينيت -إنه يقدم النص، والميتا- نص معا.
إن السؤال الذي يمكن طرحه تلقاء النصوص القصيرة جدا في المجموعة، لا يتجلى بالضرورة في هذا البعد الشكلي للنصوص، بل في بعدها الدلالي، ذلك لأن المكون الشكلي للنصوص لا يند كثيرا عن استثمار آليات التكثيف، والتجريد، والدمج، والمفارقة، والتركيز على البنى اللغوية، فيما تفتح هذه النصوص عبر هذا المكون فضاء دلاليا ثرا مدهشا، ولنتخذ بعض النصوص كنماذج على هذا الأثر الدلالي الذي تحدثه مكوناتها الشكلية:
تمثيل إيمائي
ظل منحنيا لوقت طويل في انتظار التصفيق.. قبل أن تضيء الصالة على جمهور من العميان..!! - ص8
ملل
أذكر أن الأشياء التي رتبتها لعقلي قد استعارتها الجارة لتمنح ضحويتها نكهة خاصة، وتركتني وعقلي.. يجرب أحدنا تقليد بكاء الآخر وقت الملل!!- ص15
صيف خاص
بلل أطراف عقله (حيث يصطخب صيف في الجوار) بذكريات باردة، شبت أعاصير تنهدات حين اصطدمت الجبهتان..- ص19
حفاة
حين احتفل الناس بطي حقبة الحفي في البلدة، كان صانع الأحذية الذي ألبسهم يرفع رأسه للمرة الأولى، لحظة رأى الناس أنفه الضخم المليء بالدمامل خرجوا من الباب، ونسوا أحذيتهم..- ص36
قشر موز
لم يصل بعد، ولن... على ما يبدو، مر وقت طويل قبل أن يدرك أن قشر الموز يُلقى عمدا في طريقه إليهم..- ص62
تتمظهر في النصوص الخمسة جملة من الدلالات المحتملة التي يمكن أن تتقاطع، تتماهى، وتتخالف في صيغتها الأولية، لتشكل وحدة كلية ما للنسق القصصي، فالمفارقة تؤثر هنا بحضور موقفين متضادين، ينقلان المعنى السردي من العادي إلى المثير، ومن حالة اليقين إلى حالة التساؤل، ومن الحالة الأخرى تبدأ فعالية الدلالة التي تهدف إلى إيقاظ المتلقي، وإلى تحقيق شك التلقي وجدله في النص، مما يحفزه لقراءة النص غير مرة.
تظل النصوص في تدويمها الدلالي من حيث الفعل ورد الفعل، فالبطل المسرحي ينتظر التصفيق، حالة الانتظار والعتمة هي حالة قلق، يفاجأ بحالة أخرى أكثر ريبة وقلق وهي (جمهور العميان)، إذن فإن عرضه لم يشاهده أحد، هنا نوع من النفي للطرفين معا، المُشاهَد والمشاهِد، هذا النفي هو مكمن المساحة التأويلية التي يفجرها النص كاحتمال تأويلي قريب وبعيد معا، بدءا من الدلالة التأويلية الأولية للنص، حتى علاقة الإنسان بالحياة نفسها. هل الفن لا يرى، لا يشعر بتأثيره أحد؟ هل هذا العرض الإنساني مؤقت يعبره الزمن، وتتناساه الحياة، ولا تبصره. قد تمتد المساحة التأويلية الدلالية للنصوص إلى مساحات شاسعة، وهو ما يتجلى في هذا الاحتدام العقلي، في قصتي: (ملل) و(صيف خاص) وفي هذا الضجر الدائم الذي يغلف القصتين، من البحث عن الفكرة ونقيضها، من موت الفكرة وإحيائها من جديد.
وتتجلى المفارقة بشكل حاد مسنون في قصة: (حفاة) التي ينم فيها التعبير التالي: (كان صانع الأحذية الذي ألبسهم يرفع رأسه للمرة الأولى) عن ديمومة العمل من قبل صانع الأحذية إذ لم يرفع رأسه أبدا إلا بعد أن انتهى من صناعة الأحذية للجميع، الذين استنكروا منظره بعد ذلك، ومن شدة هذا الاستنكار: (نسوا) أو (تناسوا) أحذيتهم عنده، وعادوا إلى حقبة الحفي من جديد، إنه جزاء سنمار بمعنى ما، فهذا الوقت المديد الذي قطعه صانع الأحذية في نقل ناس البلدة من مرحلة لأخرى، تم تناسيه، وتم هدمه من مجرد النظر إلى الشكل لا الجوهر، في التأويل البعيد قد نقول: إنها عبثية الحياة، وسخريتها، ومفارقتها معا التي تستمر أيضا في قصة (قشرة الموز) من التأجيل والارتقاب، واللعب بالزمن إنسانيا ووجوديا.
إن المغزى الدلالي التأويلي الذي تمنحه قصص سهام البعودي القصيرة جدا، لا يتمثل في كونه تلتقط بعض المشاهد العابرة فحسب، أو المشاهد التي تحتفي بها في الذاكرة، لكنها تعمل على تحويل هذه المشاهد إلى بعد فني ينطوي على حالات، وتجارب، ومواقف تتزيا بثرائها الدلالي، وتكتسي بحسها المترع بالأسئلة. إنها قصص الهاجس، والشك الإيجابي، والجدل مع الذات والعالم.
ثنائية: الضوء- العتمة
الدالة الجلية التي تتمظهر في سرد سهام العبودي تترى في أفق ثنائية: الضوء- العتمة، إنها دالة مهيمنة، وذات وظيفة تشكيلية تبرز لتعميق الوعي الإنساني المتسائل، وتجوهر فعالية دلالية من أبرز الفعاليات في السياق الأدبي الإنساني.
تتبدى هذه الدالة بشكل متواتر، بداية من النص الأول للمجموعة: (خيط ضوء يستدق.. أو جريد) والنص الثاني: (تمثيل إيمائي) والنص الثالث: (تواشج)
وفي قصة: (ظل منكس) تقول القاصة (حين يسلك إيابه قبل تلاشي النهار، تلاحقه الشمس، وترسم في طريقه ظلا منكسا، يركله وهو بعد لا يعرف: الضوء يبحر في ماء معلول بالنكوص، أم هو ظله الذي عشي عن ضوئه؟)- ص24 و(يعهد بنا الليل إلى نهار مبدوء بعربة مائلة إلى جهة، ويسلمنا النهار إلى ليل يلغط بأمنيات لا تجود) - ص26 وفي نص: (اثنان وسبعون مترا مربعا) تستهل القاصة نصها كالتالي: (يفضح قلمه الواقعَ في المكان الأكثر عتمة.. المكان الأكثر عتمة من المقهى، نهار كل ثلاثاء ينحدر هنا، ويسحب من تعب المارين والرواد هواء لناره الصغيرة)- ص37
وفي قصة: (انزلاق)
(كان السقف يحتضن طوال الليل مخاض أفكاره، الفقاعات الناشبة في سماء الغرفة بعضها لا يحتمل سُمية الفحوى، حين أوشك أن يبدد الظلام بشرع النافذة للصباح، تعثر في فكرة دبقة..!!)- ص57 وتتواتر هذه الثنائية في سياقات نصوص مثل: (خدعة) و(تلفيق) وبمعنى ما جلي أو خفي في سياقات أخرى، إذا ما أولنا بعض هذه السياقات كما تبدى في بعض النماذج السالفة التي عرضنا لها بتركيز من النصوص القصيرة جدا.
إن الوظيفة الدلالية الأكثر دهشة في هذه الثنائية المتواترة لدى القاصة تعطي أن القاصة تكتب الضدين، أو لنقل إنها تعبر عن الأبعاد الإنسانية بطرفيها، بضوئها وظلها، بلا وعيها ووعيها، بحضورها وغيابها، ولن يأخذنا الاستطراد هنا عن البحث عن دلالات الضوء - العتمة، قدر ما تدلنا القراءة على الوظيفة التأثيرية لهذه الدلالات داخل النصوص.
إن هذه الثنائية الوصفية -على الأغلب- داخل العمل القصصي، إنما تهبنا البحث عن هذه الضدية أو التكاملية، كما أنها تقفنا على التوازي الزمني بين لحظتين، إحداهما جلية وضيئة، والأخرى خفية معتمة، وكأنها ترقب عالم الوضوح وعالم البصيرة، وحضورها بهذا الشكل الجلي إنما يؤكد على أن القاصة تدفع بهذه الثنائية بشكل قصدي، لا تصوغه فحسب قصدية الكتابة، وإنما تصوغه قصدية الدلالة. إن ثنائية بهذا المعنى تبدأ من تسمية المجموعة، وبغلافها الأسود الذي يتوسطه مربع أبيض مضيء، ولا تنتهي بما تنطوي عليه القصص من ذكر وحذف عباري لها، إنما يعطي للاحتمالات التأويلية لهذه الثنائية أبعاده الدالة، ويؤكد -بمعنى ما- على أن القص، وتجريبه الدائم لا يقف عند ما هو مكتوب فحسب، بل عند ما هو محذوف غائب أيضا. إن سهام العبودي منحتنا في مجموعة: (خيط ضوء يستدق) مساحة من السؤال، ومساحة أخرى من التأمل، وتتبع الأبعاد الدلالية للنصوص، وهي أبعاد تجلت بسبب من تميز النصوص بالكثافة، والتجريد، والتخلص من حكي الحكاية بأسلوب تسجيلي، والوقوف عند المغزى العميق في تمظهر خصب للسرد، وفي لغة تسعى لتعميق ما تحمله من رؤى دلالية، ومن تجارب خصبة متنوعة.
* صدرت المجموعة في عمان- الأردن 2004م