مشهدنا الثقافي مليء ب(الخرافات) التي تلبست بقناع (الحقائق)، بسبب كثرة طرحها وتقادم مرورها على العقول مرة بعد أخرى، دون معالجة ذهنية نقدية، مما يجعل تلك العقول تتشرَّبها وتتعامل معها كما لو كانت حقاً مطلقاً
أو شبه مطلق.. وهذا التحليل في غاية الخطورة على فرض التسليم به، فهو يقول لنا: (إن بعض الخرافات قد تتحول إلى حقائق أو ما يشبهها من جراء الأقدمية الحضورية لتلك الخرافات في الأذهان!).
ما سبق يشدد على ضرورة بذل جهود تشخيصية ثقافية حثيثة لتصيُّد مثل تلك الخرافات أو (الحقائق بالأقدمية)، من أجل تهيئة الأذهان لعملية استئصالها.. ومن أهم تلك الخرافات ما يُسمى ب(الثقافة العالمية) أو (الفكر العالمي)، وما يرتبط بذلك من بقية المفردات والخصائص أو الألقاب ك(المفكر العالمي)، و(الروائي العالمي)، و(الفنان العالمي).. والذي يجعلنا نقرر (خرافية) ذلك أن الثقافة (محلية) في جوهرها ولبها، وأن القدر المشترك فيها يتكثف حول مجموعة من (الأطر القيمية والأخلاقية) التي تخضع للتقبيح والتحسين العقلي بشرط سلامة التفكير (الفطري)، ولكنها - أي القيم والأخلاق - تُفهم وتُفسر وتُطبق وفق أنساق ثقافية متنوعة تنبع من (رؤية كلية) تحكم كل ثقافة وتصنع لها إطارها السلوكي والجمالي الخاص بها، مما يحد من القدر المشترك داخل الأُطر القيمية والأخلاقية ذاتها، فمثلاً نجد أن من ضمن الأخلاق والقيم المشتركة: الكرم والشجاعة والعدالة والإحسان إلى الناس والعفاف والعفو، فكل ثقافة إنسانية تعلي من شأن من يتلبس بتلك القيم والأخلاق.. ولكن الأنساق الثقافية الخاصة بكل مجتمع تؤطر تلك القيم والأخلاق وتنحت لها معاني خاصة ومعايير خاصة، فالكرم عند الإنسان العربي له معنى ومعايير تختلف عن المعنى والمعايير عند غيره كالإنجليزي أو الياباني أو الإندونيسي أو البرازيلي، بل نجد فروقاً واضحة في المعنى والمعايير بين العرب أنفسهم، كما الفروق بين العربي المدني - المستوطن في المدينة - والعربي الريفي أو البدوي، وهنا أتذكر مقولة جميلة للمستعرب الياباني المرموق (نوبوأكي نوتوهارا) اصطاد فيها معنى نفيساً للكرم العربي البدوي حيث يقول: إن البدوي لا يختار ضيوفه كما يفعل من يعيش في المدن!! (العرب - وجهة نظر يابانية، منشورات الجمل، 2003).
إذن الثقافة محلية في إطارها الفلسفي والفكري وأنساقها القيمية والاجتماعية، وهذا لا ينفي تأثير عملية المثاقفة، والقول ب(محلية الثقافة) يقودنا إلى التقرير بأن تحديد المعنى أو المعايرة (العالمية) الثقافة أو الفكر أمر متعذر، لأسباب كثيرة، فمن ذلك أن تلك المعاني أو المعايير لا يمكن أن نتفق عليها، لعدم امتلاكنا للقدرة الأصلية على الاتفاق بسبب الطبيعة المحلية التي تتسم بها الثقافة والتي لا نستطيع أن نذيبها في بوتقة العالمية، لأن الثقافة تتأبّى وتتمرّد على ذلك، ف (المحلية) هي مادة حياتها التي تشكِّل لحاءها الداخلي وقشرتها الخارجية!
ومن مؤشرات خطورة تهريب مصطلحات المفكر - الروائي - الفنان العالمي أنها تمر علينا أو تمرر إلينا وسط هالة من (التزكية الذهنية) والصور باذخة الجاذبية، مما يجعل تلك المصطلحات تترسخ أكثر فأكثر ضمن قائمة الحقائق أو المفردات الثقافية المستقرة ذهنياً على الأقل، ومن ثم فلا يتخللها شك منهجي ولا تتعرض لأي مساءلة فكرية.. وكل ذلك يدفع باتجاه جعل تلك الأسماء (البراقة) ملتصقة بمعايير الجودة الثقافية، وهذا مكمن لداء ثقافي خطير، سنتعرض له لاحقاً!
ويتعرض بعض المثقفين بين الحين والآخر لمثل تلك الموضوعات ويسعون لترسيخها في الأذهان وفق النهج السابق الذي أوردناه، دون أن يكون هناك قاعدة تمكِّن من إجراء نوع من التفكير أو المراجعة والتثبت من صحة المنطلقات المنهجية في تبني مثل تلك المصطلحات (الوهمية)، ومن آخر ما وقفت عليه في هذا السياق ما كتبه الأخ الدكتور محمد بن سعود البشر في مقالة له بعنوان: (مفكرون سعوديون.. بمعايير عالمية)، والتي ُنشرت في جريدة الجزيرة بتاريخ 25-5-2008، وقد تساءل فيها عن سر غياب تواجد مفكرين سعوديين (عالميين)، فهو يقول: (ليس غريباً أن لا يتصدر قائمة المفكرين العالميين أحد من السعودية، بينما تضمنت القائمة شخصيات عربية وإسلامية... وكم من مفكر مبدع قُتل معنوياً أو مادياً لسبب أو لآخر، فكيف نرجو أن يكون لدينا مفكرون عالميون؟!)!!
ولا يفصح القائلون بمثل تلك المصطلحات - ومنهم الدكتور البشر - عن سمات المفكر - الروائي - الفنان العالمي، فنحن لسنا ندري، أهي معايير أم مواصفات تتعلق بتفرُّدهم وقوتهم المنهجية أم التحليلية أم المعرفية أم قدراتهم الأسلوبية أم خصائصهم الاجتماعية أم سماتهم الشخصية والجسمانية أم اهتماماتهم أم إخلاصهم وتفانيهم واستمراريتهم في الإنتاج في مجالاتهم التي ينشطون بها، أم يرجع ذلك إلى نضالهم في سبيل المطحونين والمعذبين من بني جلدتهم أم اهتمامهم بقضايا وهموم ما رواء حدودهم الجغرافية، أم يعود ذلك إلى شهرتهم وحضورهم المكثف، أم علاقاتهم الواسعة أم نيلهم لبعض الجوائز (العالمية) أم تبنيهم للقيم (العالمية) وبقية مفردات منظومة الثقافة العالمية؟! هل هو شيء من ذلك؟ أم كل ذلك؟ أم لا شيء من ذلك؟ متى نقول عن شخص بأنه مفكر أو مثقف أو روائي عالمي؟ ومن الذي يحكم؟ وكيف نقبل وكيف نرفض ذلك التحكيم؟
كل هذه الأسئلة وأمثالها لا أحد يتصدى لها، الأمر الذي جعل مثل تلك الخرافة تترسخ في أذهان الكثيرين، وسكوتنا على هذا النهج يولّد شعوراً لدى بعض مثقفينا ومفكرينا بأن آية تميُّزهم تكمن في حصولهم على هذه الجائزة (كجائزة نوبل مثلاً) أو إدراج أسمائهم في تلك القائمة (كقائمة المئة مفكر الأكثر تأثيراً لمجلة فورين بولسي).. وهذا أمر له خطورته البالغة حيث إن ذلك يؤسس نوعاً خطيراً من (الاغتراب الثقافي)، فالمثقف حينها يُختطف عقله ووجدانه، فينظر إلى ذاته من خلال الآخر، أو يكتب ما يعتقد أنه يُوصله إلى (العالمية المتوهمة)، سواء من حيث اختيار الموضوعات أو منهجية تناولها أو طريقة عرضها، وهنا أذكر - على سبيل المثال - كيف كان الروائي المصري يوسف إدريس متطلعاً للفوز بجائزة نوبل وكيف تعرض للروائي نجيب محفوظ ووجه إليه العديد من التهم وقلل من شأنه، حين طار بالجائزة ذلك الروائي الكبير - رحمه الله - والذي كان مغرقاً في (محليته) فكراً ومعالجة ولغة، مما أوجد لإنتاجه هذا القدر الكبير من الحضور والتأثير داخل نطاق ثقافته بالدرجة الأولى، والمشهد الثقافي يُرينا صوراً أخرى من (التّشوف) الذي يبديه بعض المثقفين المعاصرين لنيل مثل تلك الجوائز، ومنهم الروائي الليبي إبراهيم الكوني وغيرهم كثير.. كما يمكننا أن نتساءل في السياق ذاته عن أسرار شهرة رواية (بنات الرياض) إلى الدرجة التي استحقت معها أن تترجم إلى الألمانية وبعض اللغات (العالمية) الأخرى... ألم يجذر مثل هذا الطرح لتيار ثقافي بدأ يستكشف شفرة اهتمام (الآخر) بالنتاج الثقافي العربي الإسلامي، وأدرك أن ثمة موضوعات معينة يمكن أن تنقله إلى حيز (الكتب الأكثر مبيعاً) بل وربما إلى مستويات معينة من (العالمية) المتوهمة عبر تلقف بعض دور النشر الأجنبية لنتاجه وترجمته، ونحن هنا مطالبون بتذكر أن (ألف ليلة وليلة) منتج عربي يعرفه العالم عن بكرة أبيه، فهل هو نتاج (عالمي)، وبأي معايير نقول هذا؟!! ما نحتاجه فعلاً ليس هو المثقف أو المفكر أو الفنان العالمي بل المثقف والمفكر والفنان الصادق... فالصدق يحمله على أن يكون أهلاً للقب الذي يحمله، ومستعداً دون تباطؤ أن يدفع التكلفة كاملة غير منقوصة لكي يحتفظ بهذا اللقب أو ذاك، مما يجعله يدمن تطوير ذاته.. منهجية وعلماً وإنتاجاً ومكاشفةً وإصلاحاً!!
beraidi2@yahoo.com