يُعد القرن التاسع عشر الميلادي بداية الاتصال الفعلي للعالم العربي مع العالم الحديث بعد زيادة اهتمام الغرب الأوربي في المشرق العربي، وتدخله السياسي السافر من أجل إسقاط الخلافة العثمانية، وتخطيطه لتقسيم تركتها بين الدول الأوربية المستعمرة؛ فضلاً عن الهدف الأساسي المتمثل في إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
وقد كانت خطة إنشاء دولة إسرائيل اليهودية، والمحافظة على بقائها تتطلب واقعاً جديداً يتمثل في إضعاف الدول المحيطة بإسرائيل، وعدم السماح لها بما يحقق التفوق العسكري، مما يستلزم الحيلولة دون ما يؤدي إلى ذلك التفوق من نهضة علمية أو اقتصادية، فضلاً عن الاستقرار السياسي.
ومن سوء المصادفات أن العالم العربي والإسلامي كان يشهد أواخر القرن التاسع عشر أقصى مراحل الضعف والانحطاط، في حين كان الغرب المتفوق إعلامياً وحضارياً وسياسياً يرسم أهدافه بوضوح، وينفذها بدقة، مما جعل الطرف الأول الغارق في الضعف والتخلف يكون أرضاً خصبة، ويصبح أداة طيعة لتنفيذ تلك المخططات، مخدوعاً بالوعود المعسولة تارة، ومرغماً بالقوة العسكرية تارة أخرى.
ومع ذلك فإن الاتصال بين الشرق المتخلف والغرب المتقدم قد أوجد جذوة فكرية، وتطلعاً نحو النهوض لدى بعض النابهين من أبناء العرب والمسلمين الذين اطلعوا على نهضة الغرب وعرفوها.
كما أن الفكر القومي الذي زرعه الغرب في الأمتين التركية والعربية، من أجل فصلهما عن بعضهما والذي توج بقيام ثورة القوميين الأتراك وقيام حزب تركيا الفتاة في 23 يوليو 1908م، قد أجج نار القومية العربية المضادة على يد من أطلقوا على أنفسهم الأحرار العرب، المطالبين بالتحرر من الحكم التركي، محملين الدولة العثمانية سبب تخلفهم، ومتهمين القادة الأتراك الجدد بالتحامل على العرب واضطهادهم.
غير أنه يجب ملاحظة أن هذه القومية لم تكن لتظهر بذلك الزخم لولا أن بريطانيا وفرنسا هما اللتان زرعتا بذرتها في الخفاء، وحثتا أولئك القوميين على رفع شعار القومية العربية في وجه الدولة العثمانية، التي كانت الهدف الرئيس لدول الاستعمار الأوربي آنذاك.
ويعترف العديد من الكتاب والسياسيين العرب بعد فوات الأوان بأن تلك الدعوة للقومية العربية التي تزعمها شريف الحجاز كما سيأتي، وانخدع بها الكثير من أحرار العرب لم تكن مبنية على رؤية قومية واضحة، ولا على وعي قومي حقيقي.
وبالطبع فقد كانت شعارات الديمقراطية والحرية مجرد طعم كلامي يلوح به للعرب، لا بأس من تداوله شعبياً ما دام في إطار الأقوال والخطب الرنانة التي تطرب لها تلك الجماهير، ولكن لا يسمح للعرب بالاقتراب من تحقيق ذلك، لأن الدول الكبرى التي تسعى إلى الهيمنة على دول العالم العربي لا ترتاح لقيام الإصلاح الحقيقي لأنه يتعارض مع أهداف المحتل، ولهذا فقد كان من يلحظ عليه التوجه الجاد نحو تلك الإصلاحات من الزعماء العرب يتم التخلص منه بسرعة أو خلق المتاعب له.
وبصريح العبارة يقول أحد المخططين الصهاينة على لسان الغرب: (سيحظى العرب بمعاملة حسنة طالما أنهم لا ينهضون).