منذ أن اكتمل توحيد هذا الوطن، ووضعت أسس بناء نهضته، على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله- وقادته يرعون الحركة التعليمية. وقيامهم بواجب هذه الرعاية مقدَّر بدون شك. ونتائج هذه الحركة متعددة الوجوه مختلفة الثمار....
..... ومن المعروف أن في طليعة تلك النتائج ما له صلة بالأدب؛ دراسة وإبداعا. ومن المعروف، أيضاً، أن قارئي الجانب البحثي من الإنتاج الأدبي أقلُ عدداً من قارئي الجانب الإبداعي، شعراً ونثراً. وليس المجال، هنا، مجال تلمُّس أسباب ذلك ولا إيضاح المستوى الفكري لهؤلاء وأولئك على العموم. بيد أن لكلٍ من الجانبين البحثي والإبداعي أهميته ودوره.
ولم يكن غريباً على قيادة هذا الوطن القائمة بواجب رعاية الحركة التعليمية أن تبدي تقديرها للروَّاد الذين أنتجوا ما أنتجوا من فكر. ولأن دائرة المنتجين فكرياً في المجال الأدبي أوسع من دوائر المنتجين فكرياً في المجالات الأخرى - كالمجال العلمي البحت أو التطبيقي، أو مجالي الاقتصاد والاجتماع -، وكون المتلقين للإنتاج الفكري الأدبي هم غالبية القراء في المجتمع، فإنه لم يكن غريباً، أيضاً، أن أتت الخطوة الأولى من تقدير الرواد، ممثلاً في جائزة الدولة التقديرية، مقتصرة على المجال الأدبي. وكان عامل السن أحد شروط نيل تلك الجائزة.
ولاقتصار تلك الجائزة على المجال الأدبي كان من سداد الرأي وصوابه - في نظر كاتب هذه السطور- أن أوقفت تلك الجائزة. وكان مؤملاً أن يعاد النظر في اقتصار جائزة الدولة التقديرية على الأدب، وفي الشروط التي وضعت لمنحها؛ وبخاصة عامل السن. وما زال هذا الكاتب يذكر أن اتصالاً تم بينه وبين صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد - رحمه الله - بشأن الجائزة المذكورة، وأنه أبدى لسموه وجهة نظره على نحوٍ لا يخرج مضمونه عما يأتي:
1- أن عامل السن ينبغي أن لا يكون شرطاً من شروط نيل الجائزة من صحيح القول: إن المتوقع أن تكون ثمار التجربة البحثية أو الإبداعية تراكمية بحيث لا تبلغ مدى نضجها وقمة عطائها إلا بعد بلوغ سن متقدمة نوعاً ما. غير أنه يوجد باحثون أنتجوا ما يعتز به الوطن ويفتخر وهم لم يصلوا إلى سن الخمسين؛ بل لم يصلوا إلى سن الأربعين. وإذا كان هذا واقعاً بالنسبة للباحثين فإنه أوضح بالنسبة للمبدعين. وهناك أسماء معروفة من هؤلاء، وأولئك داخل الوطن وخارجه.
2- أن الجائزة ينبغي عدم قصرها على الإنتاج الأدبي. بل لا بد من امتدادها لتشمل مختلف مجالات المعرفة؛ سواء كانت شرعية أو اجتماعية أو اقتصادية أو علمية؛ بحتة وتطبيقية.
ولقد سبق أن كتبت أكثر من مرة عن جائزة الدولة التقديرية. ومن تلك الكتابات مقالة عنوانها: (جائزة الدولة التقديرية للأدب وإمكانية تصحيح المسار).
وقد نشرت في هذه الصحيفة الغراء قبل ست سنوات. ومما ورد فيها الإشارة إلى أن الساحة الأدبية في وطننا أصبحت أكثر غنى وثراء بما ينتجه الكاتبون والكاتبات في الأدب؛ دراسات وإبداعاً. وبينهم وبينهن من عمره أو عمرها دون السن التي كان بلوغها شرطاً من شروط نيل جائزة الدولة التقديرية للأدب.
على أن ما هو أهم من مسألة عامل السن هو أن العطاء الفكري والمعرفي، الذي نال تقديراً عربياً وعالمياً لمواطنين ومواطنات، لم يقتصر على المجال الأدبي؛ بل امتد إلى رحاب أوسع ليشمل مجالات أخرى، فأسهم في رفع شأن الوطن وإعلاء مكانتها وسمعتها.
وفي الآونة الأخيرة أصدرت الدولة - وفقها الله - قراراً كان مضمونه يشتمل على استئناف جائزة الدولة التقديرية للأدب مسيرتها. وكان المؤمل أن يكون منح الجائزة التقديرية شاملاً لجميع فروع المعرفة غير مقتصر على المجال الأدبي، لكن:
ما كلُّ ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
كان مؤملاً أن نفيد من تجارب الآخرين في مجال جائزة الدولة التقديرية، تماماً كما تحاول الإفادة من تجاربهم في مجالات أخرى. في مصر- كما في أقطار عربية غيرها- تمنح جائزة الدولة التقديرية للمتميزين عطاء فكرياً ومعرفياً في جميع فروع المعرفة، لا في الأدب وحده. وفي هذا عدل ورشاد. وكاتب هذه السطور يدرك أن أصوات أرباب القلم تلقى صدى أكثر من ذلك الذي تلقاه أصوات غيرهم في مجتمع تطربه السواليف وينساق وراء الظاهرة الصوتية أكثر من انسياقه بإدراك وراء الحقائق العلمية. لكنه كان يأمل - وكم خاب أمله في كثير من الأمور - أن يأتي قرار الدولة- حفظها الله- غير متَّسم بنظرة يقتصر مداها على فرع من فروع المعرفة والعطاء الفكري؛ وهو المجال الأدبي وحده.
هذا المجال له أهميته ودوره، وله حلاوته وسطوته، لكن تقدُّم الوطن ليس بالأدب وحده. المجالات الأخرى، التي سبقت الإشارة إليها، لا تقل عنه في الأهمية؛ وبخاصة في زمن يمثِّل التحدي الاقتصادي والعلمي والتقني بالذات أبرز معالم الحياة التي نعيشها.
هل هناك من أمل لتدارك الأمر بحيث تكون جائزة الدولة التقديرية شاملة لجميع فروع المعرفة؛ أدباً واجتماعاً واقتصاداً وعلماً بحثاً وتطبيقياً؟
هل هناك من أمل يرجى بأن تكون النظرة صائبة عادلة كما هي نظرة دول أخرى تمنح جوائز تقديرية؟ لست أدري. لكني أرجو أن يُتدبر الأمر، وأن يكون العدل هو المتبع، لا أن يكون صوت من أصواتهم هي العالية غالباً هو الحاكم بأمره. كم هو مؤلم أن ينطبق على ما هو موضوع هذه المقالة ذلك المثل المشهور: (إلى فات الفوت ما ينفع الصوت).