يُقال لا تلوموا المرآة إذا عكست صورة لا تعجبكم، فالمرآة صادقة تعكس الحقيقة. ولكن يقال أيضاً: لا تصدق ما تسمع ولا تصدق إلاّ نصف ما ترى .. لماذا لا أصدق نصف ما أرى؟ لأنّ الحقيقة نسبية .. والواقع نسبي .. والنسبية المفرطة هي إحدى المفاهيم الأساسية التي يتم تداولها في زمن العولمة ..
إذا بدأت بما تعكسه المرآة من شكلك الخارجي، فماذا سترى؟ هل ترى شكلك تماماً؟ إنّ المرآة تعكس شبيهاً بك لا أنت تماماً .. ثم ما هي الزاوية التي ترى منها؟ أنت لا تملك أمام المرآة إلا زاوية واحدة، فلا تستطيع أن ترى من الزوايا الأخرى عمودياً وأفقيا .. إذن، لا تصدق كل ما تراه في المرآة ..
وحتى في الزاوية الوحيدة أمام المرآة .. ماذا تعكس لك من شكل؟ جميلاً أم قبيحاً؟ لا يمكن أن يكون جميلاً بالكامل ولا قبيحاً بالكامل .. بل كلاهما معا! وبالأساس فإنّ قيمة الشكل لا يحددها العقل الواعي فقط بل مجموعة قيم متفاعلة، يدخل فيها الخيال والتأمل والحلم واللاوعي والحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية ..الخ.. فالخيال مثلاً هو مرآة سحرية تعكس لك صور الماضي والحاضر والمستقبل، فهل يمكن إطلاق الأحكام دون خيال؟ وهل يمكن الاعتماد على الخيال في إطلاق الأحكام؟
قد نقول إنّ مسألة الجمال والقبح نسبية، لكن حتى في الخير والشر كيف نستطيع التحديد؟ والناس - كما قال أرسطو - يختلفون في تحديد قيمة الخير، لأنّ بعضهم قد يتضرر نتيجة الشجاعة أو الثروة أو الكرم، وهذه أمور تعارفوا على أنها من الخير..؟ المطر مثلاً هو صفة عظيمة للخير في المناطق الصحراوية الجافة، ولكنه مزعج في المناطق الاستوائية المطيرة ..
وإذا تركت المرآة جانباً، وحاولت أن تعرف أو تكتشف من أنت، عبر بصيرة العقل لا عبر بصر العين .. ولكن أي عقل؟ العلمي، المنطقي، الخيالي، النفسي؟ وحتى عبر هذه الوسائل فشخصيتك تتغير مع الوقت والظروف .. (الفرد لا يظل شبيهاً بنفسه بل يختلف حسب الظروف، إذ لا نرى الأشياء من زاوية أخرى فحسب، بل بعيون أخرى، فلا تظل شخصيتنا هي ذاتها) (باسكال). فأنت عندما كنت طالباً غيرك عندما تخرجت وعملت .. وأنت حين تكبر تتغير مع مرور الزمن .. وحتى الزمن هو شيء غير ثابت وغير واضح، كما قال أرسطو: الزمان غير موجود، أو أن وجوده ناقص غامض، لأنّ الماضي انقضى، والمستقبل لا يدرك، والحاضر يفر باستمرار..
إذن، المسألة لا تعتمد على الحس العلمي المادي فقط، بل هناك خليط من العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية، ومن ثم تكون الحقيقة التي نبحث عنها عبارة عن فكرة من تصور كل إنسان ناتجة عن تفاعل كل هذه العوامل. لذا فإنّ البحث عن الحقيقة يتم بطرق متعددة ومزدوجة .. والزعم بأنّ الفكر (العلمي والعقلي) يمكنه وحده الوصول إلى كافة الحقائق يغدو وهماً كبيراً أو صغيراً..
وليس الوصول إلى الحقائق يتم عبر وسائل مزدوجة من حيث الكيفية والدقة والموضوعية والمبررات فقط، بل إن هذه الوسائل ناقصة بالضرورة .. فمثلاً في الحواس البشرية نحن ننظر عن قرب إلى المدى في الطريق على أن الأرض مسطحة، ولكن عبر وسائل أخرى يتضح أن حاسة البصر لدينا كانت مخادعة، لأنّ الأرض كروية! وفي الطائرة نرى عن بعد أن قضبان سكك حديد القطارات خط واحد، وعندما نقترب ندرك أن أبصارنا كانت ناقصة لأنهما خطان! وعندما نركب القطار ونقابل قطاراً آخر يلتبس علينا الأمر فلا ندري هل قطارنا هو الذي يتحرك أم القطار الآخر؟ فندرك أن الواقع هو من صنع عقولنا، وليس الواقع هو كما هو بذاته المستقلة .. وفي المحصلة نحن نصنع صورة الواقع من مزيج مما هو حاصل في الواقع ومما هو متهيئ في عقولنا..
وليست حواسنا فقط ناقصة ومخادعة وهي الوسائل الأساسية للمعرفة، بل حتى الظرفيات الأخرى التي تتم فيها التجارب هي ظرفيات ناقصة ومخادعة، فكما أشرت لمسألة الوجود الناقص للزمان .. كذلك في المكان، يحتل الإنسان موقعاً بين اللامتناهي في الصغر والآخر في الكبر، وبسبب هذين اللامتناهيين فإننا لا نستطيع أن نجد شيئاً أكيداً ثابتاً .. والإنسان في زاوية ضيقة بالكون تحيط به الللامتناهيات، فهل تراه يعرف موقعه؟ (باسكال) .. ونحن تعلمنا في المدارس أنّ الكون يتألف من ملايين المجرات، ومجرتنا (درب التبانة) فيها مئة ألف مليون نجم، ويقع نظامنا الشمسي على بعد 33 مليون سنة ضوئية من مركز مجرتنا .. فهل تستطيع عقولنا تخيُّل كل هذه الأرقام؟
إذن كيف نعرف الجيد والرديء فينا؟ وكيف نفرق بين الخير والشر وبين الصواب والخطأ؟ الإجابة القطعية على طريقة الأبيض والأسود (إما - أو) لا تستطيع أن تصمد أمام تبدل الوقائع .. بينما الإجابة على طريقة ألوان الطيف هي الأكثر قدرة على التفسير .. فهي تحول قطعية (إما- أو) إلى تفاعل (كلاهما - و)، وعلى وضعية متداخلة (رغم - لا بد). والمنطق في ذلك هو أنه لا يوجد تضاد تنافري بين الإيجابي والسلبي بحيث إن أحدهما يلغي الآخر، بل يوجد تقابل أو تداخل أو تفاعل جدلي، فلا يمكن أن يوجد أحدهما دون الآخر، بل إنّ كل واحد منهما موجود في الآخر ..
أولسنا نقول دائماً إن لكل نظام سلبياته وإيجابياته؟ هذا يعني أن الإيجابي والسلبي متداخلان في إطار واحد .. ونقول، أيضاً، إنّ لكل قاعدة استثناءتها؟ هذا يعني أن الاستثناء هو اللا قاعدة، أي أنّ في القاعدة نفسها وهي الأشد صرامة في القطعيات يوجد بها اللاقاعدة، لكن هذا التقابل قد يكون أيضاً نفياً تفاعلياً جدلياً، بحيث ينفي الاستثناءُ القاعدةَ ليعمل على إلغائها أو تغييرها .. ذلك يعني أنّ الحقيقة نفسها متغيرة ومزدوجة، وأنّ الطريق إليها مزدوج، فيغدو الوصول إليها مستحيلاً ..
وهكذا نقع في أزمة إذا اقتنعنا بوجهة نظر السرديات الكبرى (الإيديولوجيات الشمولية والنظريات الفكرية) التي حاولت أن تشرح الشرط الإنساني والطبيعة عبر أجوبة كاملة وقطعية ومقابلات تضادية بين الأشياء: الخير والشر، الأنا والآخر، العلم والجهل، الحركة والسكون، البداوة والحضارة، الهوية والاختلاف ..الخ. فلو طبقنا ألوان الطيف على الهوية سنجد أنها تتشظى إلى هويات متداخلة ومتفاعلة .. فهناك الهوية: الوطنية، القومية، الدينية، العرقية، المهنية، المناطقية، العمرية، المدنية، الطبقية، الفكرية، الجنسية، الفنية ..الخ.
إنّ النسبية المفرطة هي أحد المكونات الفكرية في عالم اليوم التي يجدر مناقشتها .. والغاية المرجوة من هذه المقالة هي: كيف نعرف أننا لا نعرف؟ إنه سؤال المعرفة والبحث عن الحقيقة .. فما هي إمكانية إدراك الحقيقة ونظام الطبيعة والسيطرة على العالم؟ وهل هناك أصلاً حقيقة واحدة تحدد الأخلاق والقيم والمعايير كالصواب والخطأ، والخير والشر، والجيد والرديء؟ الإجابة متروكة لقناعة كل إنسان..
alhebib@yahoo.com