كتبتُ قبل سنين مقالاً انتقدتُ فيه الإسرافَ في خلْع تقدير (ممتاز) على موظفين لا ناقةَ لهم ولا جمل في (التميّز) أداءً أو تأهيلاً أو تعاملاً، وإن هذا التقدير يُمنحُ أحياناً لعدة اعتبارات لا علاقةَ لأيٍّ منها بتقويم الأداء الوظيفي، ولا يشْفعُ له حصَادُ الموظفِ المعنيِّ خلال العام، ومن بين تلك الاعتبارات (اللاّوظيفية) ما يلي:
1- المجاملةُ الصِّرفة للموظف على حسَاب استحقَاقات الأداء وشرُوطه وضوابطه.
2- جهْلُ المقوّم نفسه لحصَاد الموظف الخَاضع لولاَيته، إنْ خيراً أو ضدّه، فيُضْطرّ أحياناً إلى التعامل مع الموقف بعفْويّة يزْدريها العاقلُ ويُنكرُها المنصِفُ، ويمنحُه تقدير (ممتاز) إمّا إبراءً للذمة درْءاً لشبهة الظلم، أو فراراً من (المواجهة) مع الموظف حيت تُكشَفُ له النتيجةُ بعد أن حرَّرها النظامُ من أسْر السرية!
3- وقد يخلعُ صاحبُ الولاية تقديرَ (ممتاز) على موظف لحاجةٍ في نفسه، أو (زلفى) لسواه من خلاله.
***
* واليوم.. أعيد طرح هذا الموضوع مجدداً في ضوء ما أشاهده أحياناً من إسراف في سوء التطبيق لمفهوم (الامتياز)، ومنحه من ليس له أهلاً، وهنا أذكر بأنني لست مناوئاً لتقدير (ممتاز)، ولا للمتميزين المؤهلين له، حين يخضع خلعه عليهم لضوابط أمينة تمليها وتكيفها آلية العمل وضوابطه ونتائجه.
* وأود هنا أن أعيد طرح بعض المسوغات التي يستند إليها تحفظي على إسباغ تقدير (ممتاز) لمن ليس له أهلاً، فأقول: إن تقرير الأداء الذي يقوّم من خلال حصاد الموظف العام، سلبا أو إيجاباً، يظل من أبرز الأساليب الإدارية أهمية، وأدقها ممارسة، وأكثرها تعرضاً للخلاف والاختلاف في الرأي والوسيلة والمضمون، وقد تعذر حتى الآن إيجاد صيغة مقبولة، تنأى بتقرير الأداء عن الخطأ والشبهه واللاموضوعية، وإلى أن تفرز عبقرية الإنسان معادلة أفضل لمثل هذا التقويم، سيبقى الأمر هاجساً ملحاً في ذهن الإداري والمسؤول حيناً بعد حين!
***
* من جانب آخر، أزعم أن هناك في تقديري المتواضع فرقاً بين النجاح والتفوق، مثلما أن هناك فرقاً بين النجاح وضده، وبالتالي، يمكن القول بأن نجاح المرء في إدراك غاية معينة يخضع لمعادلة القياس النسبي، فليس كل نجاح تفوقاً، وليس كل فوز إبداعاً، بل إن هناك تفاوتاً بين نجاح وآخر أو بين فشل وآخر، بمعنى أن الاختلاف ليس في النوع فحسب، بل في الدرجة أيضاً.
***
* إن منح تقدير (ممتاز) قد يوحي للممنوح بأنه بلغ شأواً من الكمال, ولي حول هذا الموضوع أكثر من وقفة:
أولها: أن بلوغ (الكمال) في أداء شيء أمر متعذر، فلسفياً وعملياً وإنسانياً، هذا لا يعني بأي حال التشكيك في قيمة عمل ما أو تحجيمه، بل يعني أن هذا العمل أو ذاك، يمكن أن يؤدي بصورة أفضل، ولنتذكر دوماً بديهية فلسفية تقول بأنه ما من شيء جميل إلا وجد ما هو أجمل منه، وقس على ذلك كثيراً من أمورنا الأخرى، مما له صلة بشؤون الحياة والإحياء!
***
وثانيها: أن هناك مردوداً نفسياً مركباً قد ينشأ على هامش وعي المرء الحاصل على تقدير (ممتاز) يبدأ بالرضا شبه المطلق عن النفس، والغبطة بها، وقد يتحول لدى البعض إلى نوع من (القناعة الذاتية) بأنه (ليس في الإمكان أفضل مما كان)!
***
وثالثها: بلوغ هذا القدر من (الشعور بالتفرد) يردي بصاحبه في هوة الفشل، رغم إرادته ووعيه، غير مدرك أن النجاح لم ولن يكون قيمة مطلقة، بل يظل نسبي الأثر والحدوث، إلا فيما ندر من أحوال البشر قديمها وحديثها، فالنجاح يصنع النجاح، لكنه لا ينتهي!
***
* وترتيباً على ما سبق، يمكن القول بقدر من اليقين أن استخدام تقدير (ممتاز) في تقرير الأداء الوظيفي أمر يجب تجنب الغلو فيه كيلا يكون مهبطاً للفشل، بدل أن يكون سُلّماً للنجاح، وأنه لا بد من الثقافة الوظيفية الملائمة لتركيبة السلوك الإنساني، وأن كلَّ خطوة نجاح يحققها هي جزء من مشوار التفوق، الذي لا يقف عند حدٍ، ولا يخضع لمعادلة واحدة، زماناً أو مكاناً أو أداءً!.