قال لي صاحبي: لقد سمعت من خطيب مسجدنا يوم الجمعة كلاماً ثميناً عن الأمن وقيمته في حياة البشر، وعن مسؤولية ولاة الأمور في تحقيق الأمن للناس من جوانبه كلها، المادية والمعنوية، وعن دور البشر جميعاً في تحقيق الأمن لأنفسهم وأهلهم ومجتمعاتهم وأممهم، وتحدث الإمام - جزاه الله خيراً - عن الأمن في الأوطان، وعن الأمن النفسي والفكري، وعن الأمن العقدي، وأفاض في بيان خطورة الاختراقات الدينية والفكرية المنحرفة عن منهج الله على الأمن بصفة عامة، وخطورة ترك المرجفين ثقافياً وفكرياً يصدمون ثوابت الناس الدينية، وقيمهم الثقافية والفكرية، على الأمن بصورته العامة، فإن مصادمة ثوابت الدين الذي يؤمن به الإنسان تعني استثارته، وإقلاقه، وإصابة أمنه النفسي والعقدي والفكري في الصميم، وفي هذا من الجناية على أمن الأوطان ما لا يجوز لنا أن نسكت على مثله، وذكر في خطبته أن من العوامل ذات الأثر السلبي في أمن الإنسان العقدي، ما يحدث من التنطَّع الزائد المنهي عنه شرعاً، فهو يُفضي إلى التعصُّب الأعمى والتطرُّف في التعامل، ولهذا كله دورٌ كبير في إقلاق المجتمعات والإخلال بأمنها.
قال صاحبي: ثم استشهد الإمام بعددٍ من الآيات والأحاديث، ومنها قوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}، مشيراً إلى أن هذه الآية صريحة في بيان أثر الإيمان بالله، وعدم الظلم في استتباب الأمن في المجتمع البشري.
قلت لصاحبي: إن موضوع الأمن من أهم الموضوعات التي يحسن بالخطباء أن يطرحوها، ويدعوا الناس إلى المحافظة عليها، وعدم التهاون بها، فقيم الأمن في حياة الإنسان هي قيمة الطعام والشراب، بل هي قيمة الحياة، فماذا تنفع مظاهر الحياة البَّراقة إذا لم يكن هنالك أمن يحقق للإنسان الاستمتاع بما أباح له الله في هذه الحياة.
وقد أمتنَّ الله عزَّ وجلَّ على قريش بأنه {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}، وهذه نعمة عظيمة عليهم تستحق أن يذكرهم الله بها.
والإيمان بالله هو طريق الاستقرار النفسي والفكري، وهو سبب رئيس في استقرار الإنسان والمجتمع، والنصوص الشرعية الدالة على ذلك كثيرة. أما الآية الكريمة التي ذكرت أن الإمام قد استشهد بها على الأمن في الدنيا، فإن لها موقفاً آخر أشار إليه المفسرون، يتعلق بالأمن يوم الفزع الأكبر، يوم القيامة.
أورد ابن كثير في تفسيره حديثاً عن الإمام أحمد، رواه جرير بن عبدالله قال فيه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يُوْضِعُ نحونا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: كأن هذا الراكب إياكم يريد، فانتهى إلينا الرجل فسلَّم فردَدْنا عليه السلام: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أقبلت؟ قال: من أهلي وولدي وعشيرتي، قال: فأين تريد، قال: أريد رسول الله. قال: فقد أصبته، قال: يا رسول الله علِّمني ما الإيمان؟ قال: تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجُّ البيت، قال الرجل: قد أَقْرَرْتُ، قال جرير بن عبدالله: ثم إن بعير الرجل دخلت يده في شبكة جُرْذان، فهوى بعيره وهوى الرجل فوقع على هامته فمات، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عليَّ بالرجل، فوثب إليه عمَّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه، فقال: يا رسول الله، قُبض الرجل، قال: فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهما: أما رأيتما إعراضي عن الرجل؟ فإني رأيت مَلَكين يَدُسَّان في فيه من ثمار الجنّة، فعلمتُّ أنَّه مات جائعاً، ثم قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): هذا من الذين قال الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}، ثم قال: دونكم أخاكم، قال: فاحتملناه إلى الماء فغسَّلناه وحنَّطناه وكفَّنَّاه، وحملناه إلى القبر.
وذكر المفسرون أن معنى الآية: الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يَلبِسُوا إيمانهم بظلم، وهو الشرك، فهم الآمنون يوم القيامة.
إشارة: تحت مِظلةِ الإيمان الصادق بالله تعالى يتحقَّق الأمن.