فوجئ الكثير من المحللين السياسيين، الأتراك ومعهم كل المتتبعين للسياسة التركية بقرار المحكمة الدستورية في أنقرة بإلغاء قانون الحجاب الذي تجيز فقراته ممارسة الحق الشخصي بضمان حرية طالبات الجامعات التركية بارتداء الحجاب الشرعي الإسلامي داخل الجامعة وعدم إلزام السافرات بارتدائه!.
وتجمعت كل القوى العلمانية الكمالية لمواجهة هذا التوجه الاجتماعي وأخافهم ذلك أن يكون بداية لتحول سياسي شامل يحمل وراءه إجراءات قانونية تقضي على ما يسمونه بالمكاسب الديمقراطية التي جاء بها دستور 1925م الذي قدمه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك إلى المجلس التاسيسي التركي الأول والذي ضم عدد من الشخصيات السياسية المختارة آنذاك ومعظمهم من قادة الجيوش التي اشتركت في إخراج الحلفاء من تركيا إثر تنازل السلطان وحيد الدين آخر آل عثمان للقوات المحتلة وتسليمهم أسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية. ومنذ ذلك التاريخ (1923م) توجه المجتمع التركي نحو الغرب مقلداً كل ممارساته الاجتماعية وجاءت المبادئ الثلاثة التي دعا لها أتاتورك في قوانينه العلمانية وكان أولها منع ارتداء الحجاب في كافة مراكز الدولة التركية! وإلزام المواطنين الأتراك بارتداء الزي الأوروبي وإلغاء الطربوش بصفته رمزاً عثمانياً.
وظهر دور المؤسسة العسكرية واضحا كحامي لهذه المبادئ والأسس السياسية والاجتماعية التي سطرها مؤسس الجيش والدولة أتاتورك في ميثاقه هذا!
ويشهد التاريخ السياسي لتركيا محاولات جدية للخروج عن هذا الطريق الواحد للنهج السياسي والاجتماعي الذي رسم للشعب السير من خلاله في أي حركة سياسية أو منظمة مدنية اجتماعية دون النظر لآمال وأماني الشعب التركي المسلم في مشاركة أشقائهم أبناء الأمة الإسلامية في قضاياهم المصيرية أو ممارسة شعائر دينهم بحرية تامة وتصل نسبة المعتنقين للدين الإسلامي 99% من مجموع سكان تركيا وعدد المساجد والجوامع في أسطنبول وحدها يصل لأكثر من عشرة آلاف مسجد ومع هذا تتحدى المحكمة الدستورية التركية مشاعر الشعب التركي المسلم بقرارها المفاجئ بإلغاء قانون حرية الحجاب لطالبات الجامعات فقط! ويأتي هذا القرار كحلقة في سلسلة المواجهات المتعددة بين القوى العلمانية والتيار الإسلامي الوسطي في تركيا وبدفع قوي من زعامة حزب الشعب الجمهوري وقياده لمؤسسة العسكرية المناوئة لكل توجه نحو العالم الإسلامي ومحاولات القوى الإسلامية السياسية بإظهار الدولة التركية جزء مؤثراً بكل قضاياه الإسلامية.
وبررت رئيسة المحكمة الدستورية بحيثيات قرارها بإلغاء قانون الحجاب لمعارضته للأفكار والمبادئ التي جاءت ضمن مواد الدستور الأول لتركيا بتركيز هذا الدستور على العلمانية وقد تناست رئيسة المحكمة الدستورية هذه بأن ذلك الدستور ركز أيضاً في فقراته ومواده العديدة على تمتع المواطن التركي بحريته الشخصية وضمانها من قبل الدولة وبحكم الدستور.
إن الصراع السياسي والاجتماعي بين القوى العلمانية والتي تمثل الامتداد الفعلي لأفكار أتاتورك وبين كل تيار جديد يميل في أفكاره وتطبيقاته السياسية نحو الفكر الإسلامي الوسطي كانت تصطدم بتدخل الدبابة العسكرية لتنهي أي تحول إسلامي للسياسة الخارجية والداخلية التركية وتتحرك معها المحكمة الدستورية بإلغاء امتياز ذلك التكتل السياسي المدني وقد تعرض في الثمانينات أربيكان وحزبه الرفاه الإسلامي للعزل السياسي ومنع كل وسائل إعلامه من الصدور بحكم القيادة العسكرية التي تسلمت الحكم بالقوة وشكلت حكومة عسكرية برئاسة الجنرال (كنعان أفرين) والذي أعطى عهدة الصلاحيات الواسعة للمحكمة الدستورية في المحافظة على النظام العلماني الذي جاء به الميثاق الوطني المنظم للوضع السياسي لمستقبل تركيا السياسي آنذاك ومنذ التأسيس للجمهورية التركية في 1923م حتى يومنا هذا والخروج عنه أو محاولة تعديله تعتبره المحكمة الدستورية مخالفة دستورية تتعرض لها بالرفض والإلغاء!.
إن التجربة الناجحة لحزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان وفوزه بدورتين انتخابيتين متتاليتين بالأغلبية أعضاء البرلمان التركي وبخاصة بالتحدي الديمقراطي بانتخاب رئيس الجمهورية الحالي عبدالله غول كمرشح لحزب العدالة والتنمية دون النظر لمعارضة القوى العلمانية والمتمثلة بحزب الشعب الجمهوري الذي أطلق رئيسه دنيز بايكال مقاطعته لجلسات البرلمان أثناء الانتخابات الرئاسية وتحريك دعوى قضائية في المحكمة الدستورية لاشتراط انتخاب 267 نائباً للرئيس بحكم الأغلبية كشرط تعجيزي لمحاولة انتخاب كول رئيساً وتم نجاح هذا التحدي بتضامن عدد كافي من الأعضاء البرلمانيون في حزب الحركة الوطنية التركية وبلغت الأصوات البرلمانية لأكثر من 376 صوتاً!
وجاء أيضا تمرير قانون الحجاب لطالبات الجامعة من البرلمان وتصديق رئيس الجمهورية عليه ناقوساً تحذيريا للقوى العلمانية بقرب الخطر بإعلان نهايتها ودفنها سياسيا وملازما لهذا القانون مع مجموعة من التعديلات الدستورية لتلغي جميع بنود الدستور الذي فرضه قادة العسكر التركي عام 1982م وأدركت المؤسسة العسكرية بأن دباباتهم قد لفت بسلسلة حديدية قوية تمثل رفض الشعب التركي بكل اتجاهاته السياسية لأي خرق عسكري لقواعد الديمقراطية لاسياسية التي مارسها لأكثر من مائة عام وأمام هذا الشعور الوطني للشارع التركي استحدثت القوى العلمانية وسيلة جديدة لاسقاط التيار الإسلامي الوسطي الممثل بالأفكار السياسية الجديدة التي نجح بتنفيذها قادة حزب العدالة والتنمية لكثر من ثمانية أعوام بالترادف مع تقدم اقتصادي شامل رفع نسب التنمية إلى مستويات ممتازة تحققت مع الاستقرار السياسي الذي عاشته تركيا خلال هذه الفترة ولإيقاف هذا التيار المهدد للعلمانية والمقبول شعبياً تحركت تلك القوى باستخدام المحكمة الدستورية كسلاح مستحدث لإنهاء كل المحاولات الإسلامية ولتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية للمجتمع التركي حسب أفكارهم العلمانية!
إن هذا القرار الدستوري بإلغاء قانون نافذ ديمقراطيا وبإرادة البرلمان التركي يشكل الحرف الأول من ألف باء التحول اللاديمقراطي التي تنفذه القوى العلمانية بمطرقة المحكمة الدستورية التركية وبإعلان قرارها المنتظر بإلغاء امتياز حزب العدالة والتنمية وإغلاق كل مؤسساته الإعلامية باسم دستورهم الديمقراطي ومحكمتهم العلمانية المخالفة لإرادة الشعب التركي وبرلمانه المنتخب.
محلل إعلامي
عضو جمعية الاقتصاد السعودية - هيئة الصحفيين السعوديين