إذا جن الليل وأرخى الظلام سدوله ماذا عساك أن تفعل؟
في الزمن الغابر قبل أكثر من ثلاثين عاماً خصوصاً في قرانا الصغيرة، عندما يقبل الليل وتنطفئ شمعة النهار الوهاجة، فلا يبقى إلا الهدوء ولا يعم إلا السكون فيدخل كل حي إلى منزله، عندها كنا نشعر بسواد الظلام الحالك، فلا نور إلا نور تلك المصابيح الصغيرة التي يتحلق حولها أهل المنزل ليبصروا ماعون زادهم الصغير الذي تختلف إليه أيديهم، في ذلك العصر كان للظلام وقع على النفس فهو يهيج فيها مكامن الخوف من المستقبل، ويجعلها تشعر بالوحدة مما يضطرها إلى وقفات للتأمل في مجريات النهار وأحداثه، ويجلس المرء مع نفسه جلسة محاسبة وإن كان أهل بيته يحيطون به إلا أنه يفصلهم عنه ستار الظلام، وكل واحد منهم منشغل يناجي نفسه ويحاسبها حساب الشريك الشحيح، ويستعرض شريط النهار الطويل كيف مرت ساعاته وفيما قضيت أوقاته، كان ذلك الظلام فرصة للمرء يتحدث فيها مع نفسه ويختلي بها بعيداً عن أعين الناس ونظراتهم.
كانت هذه حسنة من حسنات الظلام، نعم فليس الظلام شر كله فله كذلك حسنات، فيكفي أنه وقت الراحة والسكون والخلود إلى النوم، ويكفي أن العبد يشعر بالإخلاص عندما يناجي ربه فلا يجامل عينا تراقبه ولا يتجمل أمام طرف يلمحه، ويكفي أنه باعث للنفس لتتذكر ظلمة القبر ووحشته، ويكفي أنه يجعلك تُسَبح بحمد ربك وأنت تبصر آيات الله التي بثها سبحانه وتعالى في السماء المظلمة والتي عز على العين أن تراها في عصرنا الحاضر.
في هذا الزمن الذي استوى فيه الليل بالنهار وأصبح المرء خصوصاً في المناطق الحارة لا يستمتع بالمشي في الطرقات والخروج من المنزل إلا بعد أن تغيب الشمس وتبتلع ألسنة اللهب الحارق، بل أصبح الأطفال الذين أمرنا بإدخالهم إلى البيوت عند الغروب لا يستمتعون باللعب خارج المنزل إلا بعد الغروب، وعليك أثناء مسيرك في الطرقات وتحت الأضواء الكاشفة التي أحالت ليلنا نهاراً أن تتنبه لأن كل من يراك يحدق فيك وإياك والغفلة فأنت تحت النظر وفي محيط البصر.
في هذا الزمن غيرت الأضواء من أسلوب الناس في الحياة، وساعدت وسائل الإعلام في ذلك مساعدة كبيرة، فقد جعلت جدول الأعمال اليومي يمتد إلى ساعات متأخرة من الليل لدى كثير من الناس فلم يعد هناك فرصة للاختلاء بالنفس خلوة شرعية لا ينكرها أعضاء الهيئة، فقد رفعت الأضواء ستور الظلام وأصبح كل منا على مرمى البصر من الآخر، فلا مجال إلا للمجاملة والتجمل والتصنع وإدخال التحسينات على كل شيء حتى تظهر في أعين الناس جميلاً أنيقاً نقياً.
لا أقول هذا الكلام رغبة في العودة إلى الظلام - حتى لا أتهم أنني من الظلاميين الأشرار - بل أقول ذلك لكي تتحرك نفسي ونفس القارئ الكريم إلى الخلوة وتشتاق إلى المحاسبة والمكاشفة وأفضل حال في نظري لذلك إذا جن الليل وأرخى الظلام سدوله.. فماذا عساك أن تفعل؟
* رئيس هيئة محافظة القنفذة