تحقيق - ماجد بن عبدالله الزعاقي
ما أن تبتعد أمة من الأمم عن الالتفاف حول هويتها الدينية والثقافية إلاّ وتبرز سلوكيات وعادات تترجم هذا التبدل والتفلت، تدق هذه المظاهر بدورها نواقيس خطر للمهتمين بالمآل الثقافي والفكري.
وحين تتأمل مظاهر ضعف الهوية الإسلامية لدى كثير من مجتمعات المسلمين وأفرادها، تجد هناك اختراقاً لامس شرائح وقطاعات عديدة منها: الشباب فتياناً وفتيات، ونساء ربات بيوت وعاملات، تلاميذ ومدرسون، جامعات وخريجون، وغيرهم كثير.
إنّ الوقوف على معالم هذا الخلل .. أسبابه وعلاجه والدور الذي تقوم به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأحد الجهات التي تمارس ضبطاً اجتماعياً وأمنياً، يساهم في تجلية أبعاد هذا الأمر بشكل واضح فكان هذا التحقيق.
البعد الاجتماعي
الدكتور علي الرومي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمام بداية بيّن أثر ضعف الهوية على المجتمع المسلم بقوله: إن مفهوم الهوية مفهوم عام يتداخل مع قضايا كثيرة، لكن يمكن القول إنه غالباً ما يستخدم للدلالة على الانتماء لأمة الإسلام وللمجتمع المسلم. ومن المعلوم أنّ الإنسان مدني بطبعه يحتاج إلى الانتماء إلى مجتمع ما وثقافة ما. وهنا ينبغي الحذر من استخدام كلمة فقدان، والأفضل استخدام كلمة ضعف الهوية لأنّها أقرب لوصف الواقع.
وأوضح الرومي أنّ أثر ضعف الهوية بهذا المعنى خطير على الفرد والمجتمع، فالهوية منبع الانتماء، وعلى أساسها تتحقق وظائف نفسية واجتماعية عديدة، وإذا كان الحديث عن الآثار الاجتماعية فإنّ أهمها ضعف التماسك الاجتماعي والضبط الاجتماعي، حيث يضعف ارتباط الفرد بمجتمعه، وبالتالي يفقد المجتمع سنداً ومدافعاً، وتضعف نتيجة لذلك قدرة المجتمع على حماية نفسه أمام المجتمعات الأخرى. وقد يتحول ذلك الفرد إلى سلاح خطير بيد الأعداء. وأقل ما يمكن أن يقال أن يصبح الفرد انهزامياً وعبئاً وعالة على مجتمعه، ويمكن تصور ذلك بالنظر في واقع بعض الشباب الذين فقدوا الرؤية والطموح، بحيث لا تجد لهم رؤية مستقبلية ناضجة، ولا يملكون من الطموح والدافع للعلم والعمل ما يجعلهم نافعين.
وأضاف الرومي قائلاً إنّ ضعف الهوية سبب في انتشار النفور بين أفراد المجتمع، حيث إنّ ضعفها ضعف للرابط أو الجامع بينهم، والأخطر من ذلك أنّ وجود هوية قوية لدى بعض الأفراد وهوية ضعيفة لدى غيرهم مدعاة للفرقة في المجتمع وضعف التواصل بينهم، بل ومدعاة لوجود تناقضات في السلوك العام لأفراد المجتمع، مما يشكل خطراً على شخصية الأجيال القادمة التي تنشأ على رؤية المتناقضات، وعلى مستوى الضبط الاجتماعي تضعف قدرة المجتمع على توجيه أفراده وضبط سلوكياتهم، فتكثر بذلك الانحرافات والجرائم ويضعف الأمن، وبالتالي يفقد أفراد المجتمع الشعور بالأمن والثقة بمن يجاورنهم ويشاطرونهم المكان.
الأسئلة الكبرى
وعن فقدان الهوية وأثره على المشكلات الأخلاقية والسلوكية، يقول الأستاذ الدكتور صالح اللحيدان، أستاذ علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، إنّ فقدان الهوية يعني عدم القدرة على الإجابة بشكل صحيح وواضح على أسئلة أساسية مثل: من أنا .. لماذا خلقت؟ ما هي علاقتي بهذا الكون الذي أعيش فيه. إنّ المسلم هو الوحيد الذي يستطيع معرفة الإجابة الصحيحة والواضحة والشاملة على هذه الأسئلة، وذلك لما يملكه من مصادر متصفة بالصدق والثبات متمثلة في القرآن والسنّة النبوية وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، فالإجابة على السؤال الأول: من أنا، جوابه أني إنسان من ذرية آدم الذي خلقه الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ وليس أصل الإنسان هو التطور من خلية حيواينة كما تدعي نظرية التطور، والجواب على السؤال الثاني لماذا خلقت، جوابه أني خُلقت لعبادة الله قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، والجواب على السؤالين الثالث والرابع تحدده الشريعة الإسلامية في مجال الاعتقاد والعبادات والمعاملات والأخلاق، فالدين عند الله هو الإسلام وغيره من الأديان غير صالح للإجابة على هذه الأسئلة، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، والأخلاق مكوّن هام من مكوّنات الهوية، وهي مجموعة من المعايير التي تحكم علاقة الفرد مع خالقه ومع نفسه والآخرين، ومع الكون الذي يعيش فيه والإخفاق في بنائها وصيانتها عند الأفراد عبر الأجيال يخلق خللاً كبيراً في هويتهم.
وأردف اللحيدان قائلاً: في وقتنا المعاصر ظهر الضعف الكبير الذي أصاب كثيراً من المسلمين في الارتباط بتلك المصادر الصادقة والثابتة المتمثلة في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة وسيرة الصحابة العطرة، والاعتماد على المصادر المتصفة بالسطحية والتناقض وعدم المصداقية التي وفّرتها وسائل الإعلام والاتصال المعاصر المرئية والمسموعة والمقروءة، وكل هذا جعل المعايير الأخلاقية على المستوى المعرفي والسلوكي ضعيفة، مما جعل الأفراد يقعون في كثير من المشكلات الأخلاقية والسلوكية، وإذا أردنا أن نبني ونحافظ على هذا المكوّن الأساسي من مكوّنات الهوية الإسلامية، فإنّ علينا تقوية وسائل بناء وصيانة المعايير الأخلاقية لدى الأجيال، وذلك باستخدام جميع الوسائل المعاصرة ذات التأثير على الأفراد والتي تقوي صلتهم بالمصادر الشرعية، إلى جانب معالجة المخالفات الفردية التي تحدث في المجتمع والحد من انتشارها، وهذا كله يؤدي إلى بناء الجانب الوقائي في شخصية الأفراد مما يجعلهم قادرين على التكيف مع متطلّبات الواقع، إلى جانب رفض كل ما يخالف هذه المعايير مهما كثرت هذه المخالفات.
أسباب الضعف
بعد ذلك انتقلنا للأستاذ الدكتور مفرح بن سليمان القوسي، الأستاذ المشارك بقسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ليحدثنا عن أسباب ضعف الهوية الإسلامية، حيث بيّن أنها تشمل جوانب عدّة حددها بالتالي:
1- ضعف الوازع الديني والابتعاد عن المنهج الإلهي الصحيح في العقيدة والعبادة والتشريع لدى كثير من الناس.
2- ضعف الثقافة الإسلامية أو انعدامها بالكلية والتقصير في تعلُّم ما لا يعذر المسلم بجهله من أحكام الإسلام وقيمه ومبادئه.
3- الإعجاب الشديد بالغرب والانبهار بثقافته وحضارته المعاصرة والولع بفلسفاته وحضارته ونظمه والأخذ بها دون تمييز بين صحيحها من سقيمها ونافعها من ضارها.
4- مجافاة العلماء الربانيين والبعد عنهم والزهد في فتاواهم وإرشاداتهم وتوجيهاتهم.
برامج وآليات
كما اقترح الدكتور القوسي عدداً من البرامج والآليات التي من شأنها المحافظة على الهوية الإسلامية في المجتمع وهي:
أولاً: الثبات على الأسس العقدية الإسلامية والتي يتمثل أبرزها في قضية الوجود، الإيمان بالله، النبوة، الإنسان، الكون، الحياة، والوعي التام بالتصور الإسلامي والصحيح لها خلافاً للتصورات الأخرى الباطلة.
ثانياً: التزود بالعلوم الشرعية النافعة من منابعها الأصيلة والتفقه في الدين في مجالات العبادة والمعاملة، والرجوع إلى علماء الشريعة والاسترشاد بتوجيهاتهم في كل ما يعن للمسلم من قضايا مستجدة في أمور دينه ودنياه.
ثالثاً: الالتزام بالقيم الخلقية التي حددها الوحي الإلهي وتمثلها رعيل الإسلام الأول، وكتب فيها علماء المسلمين الأعلام، لما لهذا الالتزام من أثر بالغ في بناء المسلم وتحديد هويته وتكوين شخصيته، وذلك لشمول هذه القيم لجوانب هذه الشخصية ولإحاطتها بكافة مناشط حياته وسائر صلاته.
رابعاً: العناية التامة باللغة العربية لغة القرآن الكريم، وذلك للارتباط الوثيق بين هذه اللغة وكل من الإسلام والقرآن، فنحن - كما أمرنا بالعناية بالقرآن الكريم - مأمورون لزوما واستلزاما بالعناية باللغة لما يلي:
1- لأنّ لغته جزء لا يتجزأ منه والعناية بهذه اللغة لا تكون إلا بخدمتها وتعلمها والتفقه فيها وأيضاً بتنميتها وتطويرها.
2- ولأنه لا يمكن فهم القرآن الكريم ولا الوصول إلى إدراك معانيه ومدلولات ألفاظه وأحكامه وتعاليمه إلا بفهم الواسطة الضرورية إليه وهي اللغة العربية.
3- ولأن القرآن الكريم ليس كتاب شريعة وأحكام فقط ولكنه كتاب يتعبد به أيضاً أي بلغته وألفاظه كما نزل إذ لا تجوز صلاة المسلم إلا بتلاوة سورة الفاتحة منه وقد أجمع أهل السنّة على منع قراءة القرآن والتعبد بغير اللغة العربية.
4- ولأن اللغة العربية أصبحت بعد نزول الوحي بها رابطة قوية من الروابط التي تجمع بين المسلمين، باعتبارها اللغة المشتركة بينهم على اختلاف أجناسهم وألسنتهم. وبهذه اللغة كتب تراثهم الديني والحضاري المشترك.
خامساً: تضافر جهود الأمة الإسلامية ولاة أمور وعلماء، ومؤسسات علمية وإعلامية ودعوية - لتحقيق ما يلي:
1- الالتزام بالإسلام إطاراً مرجعياً لثقافة الأمة وليتحقق لها التحصين الكامل ويحول دون اختراقها.
2- رفض الهيمنة الثقافية غير الإسلامية، وتعزيز هوية الأمة وثقافتها الإسلامية.
3- السعي لإبراز عالمية الإسلام في نظمه وأخلاقه وقيمه والعمل على دفع الشبهات عنه.
للحديث بقية..
هذا جانب هام من موضوعنا نستكمل معكم الجزء الثاني في الجمعة القادمة إن شاء الله.
* إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.