بوفاة حبيبة عمره ورفيقة دربه في سعده وحزنه تكشف للمعتمد حجم المأساة التي يعيشها، فلما أقبل أول عيد بعد وفاة الرميكية ودخلت عليه بناته في سجنه يلبسن الأطمار الرثة وقد بدت عليهن آثار الفاقة والبؤس من كثر عملهن بالغزل لكسب لقمة العيش، أجهش المعتمد، وفاضت شاعريته حزناً وأسى يذيب القلوب على عزيز قوم ذل، وأنشد الأبيات الشهيرة التي تداولها الناس من بعده لمئات السنين: |
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً |
فساءك العيد في أغمات مأسورا |
ترى بناتك في الأطمار جائعة |
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا |
وقال متذكراً أيام الترف والرفاه يوم فرش لأمهن ولهن الأرض بالمسك والكافور ليخضن فيها تحقيقا لرؤيا رأتها الرميكية: |
برزن نحوك للتسليم خاشعةً |
أبصارهن حسيرات مكاسيرا |
يطأن في الطين والأقدام حافيةً |
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا |
وكان من نكد الدهر عليه أن سُبيت ممن سُبي من نساء قصره ابنته الشاعرة بُثينة. وقد ذكرها صاحب نفح الطيب ضمن أدبيات الأندلس - وقصتها أنها بيعت لأحد تجار إشبيليا فوهبها لابن له صاحب مروءة فكتب لوالدها يستأذنه في الزواج منها بعدما علم بأصلها العظيم. وكانت بُثينة قد مالت لهذا الشاب النبيل، فكتبت لوالدها قصيدة تتمنى فيها موافقته. فرد عليها بقصيدة يعلن فيها موافقته ويوصيها بزوجها خيراً، فقد تعلم المعتمد خلال سجنه الدروس والعبر، واتعظ من ماضيه ما يجعله يفيده في واقعه، وبدأ يدعو نفسه للسلو معتبراً بما حدث لملوك غيره عبر التاريخ، فاستعصم بالإيمان ودعا نفسه للقناعة راجياً رحمة ربه: |
وعز نفسك إن فارقت أوطانا |
في الله من كل مفقود مضى عوض |
فأشعر القلب سلوانا وإيمانا |
أما سمعت بسلطان شبيهك قد |
بزته سود خطوب الدهر سلطانا |
وطن على الكره وارقب إثره فرجا |
واستغفر الله تغنم منه غفرانا |
وإذا كانت دولة الشعر قد اهتزت بسقوط المعتمد فإن اهتزازها لم يتوقف طوال سنوات أسره وسجنه، فقد ظل يشجيها بدرر قصائده التي يرسلها من سجنه، واستثارت أحزان مأساته وذكرى مكارمه نخوة شعراء عصره ومروءتهم فتسابقوا على زيارته في سجنه بأغمات وفي مقدمتهم شاعر بلاطه أبوبكر الداني الشهير بابن لبانة الذي دارت بينه وبين المعتمد مراسلات شعرية رائعة جمعها ابن لبانة في كتابه (السلوك في وعظ الملوك). ففي إحدى زورات ابن لبانة لأغمات يودعه المعتمد حزنا على فراقه بقوله: |
أضاء لنا أغمات قربك برهة |
وع اد بها حين ارتحلت ظلامُ |
وأبقى أُسام الذل في أرض غُربةٍ |
وما كنت لولا الغدر ذاك أُسامُ |
فيرد عليه ابن لبانة بقصيدة طويلة باكية تهز الوجدان وتستثير الدموع يقول فيها: |
سأدمي جفوني بالسهاد عقوبةً |
إذا وقفت عنك الدموع الجواريا |
وأمنع نفسي من حياةٍ هنيئةٍ |
لأنك حي تستحق المراتبا |
وظل الركبان يرددون عبر العصور بشجن وأسى أبيات المعتمد الشهيرة التي أرسلها لابن لبانة ومطلعها: |
غريب بأرض المغربين أسير |
سيبكي عليه منبر وسرير |
إذا قيل في أغمات قد مات جوده |
فما يرتجى للجود بعد نشور |
مضى زمن والمُلك مستأنس به |
وأصبح عنه اليوم وهو نفور |
فياليت شعري هل أبيتن ليلةً |
أمامي وخلفي روضة وغدير؟! |
ولم تحتمل روح المعتمد التواقة للسمو قيود الأسر ومذلة السجن وعذاب الجسد فارتفعت إلى بارئها في الحادي عشر من شوال سنة 1488هـ رحمه الله، فظل يملأ الدنيا ويشغل الناس بعد موته كما كان في حياته، فقد ظل قبره مزاراً لمحبيه والمعجبين بشعره وأدبه من الأدباء والعلماء عبر العصور، وخُلدت أغمات ودخلت التاريخ بمدفنه بها، وسجلت دولة الشعر قصائد عصماء خالدة في رثائه والبكاء عليه، وكان أول من زاره بعد وفاته من الشعراء أبو البحر بن عبدالصمد الذي أنشد أمام قبره: |
ملك الملوك أسامع فأنادي |
أم قد عدتك عن السماع عوادي |
وقال الشاعر أبو محمد بن غانم ينعى المعتمد: |
ومن الغريب غروب شمس في الثرى |
وضياؤها باقٍ على الآفاق |
وبعد مضي 273 سنة على وفاة المعتمد زار قبره بأغمات الوزير الأندلسي العلامة لسان الدين بن الخطيب، وذلك سنة 761هـ، وأنشد: |
قد زرت قبرك عن طوعٍ بأغمات |
رأيت ذلك من أولى المهمات |
لم لا أزورك يا أندى الملوك يداً |
ويا سراج الليالي المدلهمات |
وكتب المقري في نفح الطيب عن زيارته لقبر المعتمد: (وقد زرت أنا قبر المعتمد والرميكية أم أولاده، حين كنت بمراكش المحروسة عام 1010 هجرية، وعُمِّي عليّ أمر القبر المذكور، وسألت عنه من أظن معرفته له، حتى هداني إليه شيخ طعن في السن، وقال لي: (هذا قبر ملك ملوك الأندلس، وقبر حظيته التي كان قلبه بحبها خفاقاً غير مطمئن). |
فرأيته في ربوةٍ حسبما وصفه ابن الخطيب رحمه الله، وحصلت لي من ذلك المحل خشية وادكار، وذهبت بي الأفكار في ضروب الآيات، فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين). |
|