Al Jazirah NewsPaper Monday  02/06/2008 G Issue 13031
الأثنين 28 جمادى الأول 1429   العدد  13031
حتى صلاح الدين الأيوبي مُتهَم بالخيانة
د. عبد الرحمن الحبيب

يحتدم حوار تناحري بين الفرقاء في المنطقة العربية ويصطخب بتهم الخيانة والعمالة للفريق المقابل، ليصبح الحوار صراعاً.. وأوضح ما نراه هو النقاشات الحالية في منتديات الإنترنت، التي تتراوح من مستوى هادئ رصين وثري إلى مستوى منفعل وغوغائي وسطحي، وما بينهما من مستويات..

.....والمؤسف أنه حتى الحوارات الهادئة ظاهرياً هي غالباً منغمسة في أغراض لا تخدم البحث عن الحقيقة، بل في لعبة الدفاع والهجوم.. التبرير والتصيّد.. عبر الانتقاء المنحاز للأحداث والسلوكيات والشواهد.. وقد تمادى البعض في تلك التهم حتى نبشوا في صفحات التاريخ وانتقوا منها ما يناسبهم، واقتطعوه من سياقه وتسلسل أحداثه بلا تقدير لظروف المرحلة الزمنية التي يتناولونها، فكالوا التهم والشتائم للرموز التاريخية للأطراف الأخرى المخالفة، وبالغوا في الثناء والتبجيل لدرجة التقديس لرموزهم التاريخية..

فمن ذلك من اتهم الإمام الغزالي بالخيانة بسبب عكوفه في قبة صخرة بيت المقدس، وهي تحت الاحتلال الصليبي، ولم يتصد لهذا الاحتلال لا بالكلمة ولا بالسيف.. ويرد البعض على هذه الاتهامات بأن الإمام المجدد الغزالي وهو يؤلّف كتابه (الإحياء) في ظل الاحتلال، كان يهدف إلى هدف سام أكبر وبعيد المدى، وهو إحياء الدين على حقيقته وزرعه في عقول الناشئة والأجيال القادمة باعتباره مفكراً عظيماً هذه وسيلته لإنقاذ الأمة..

ومن ذلك من يتهم ابن خلدون (صاحب المقدمة) بأقصى درجات الخيانة بسبب لقائه بالغازي تيمورلنك على أبواب دمشق وتملّقه، ثم مديحه الباهر له فوق كل وصف، بخطبة عصماء ارتجّ لها مجلسه، وأنه قبّل يد تيمورلنك، وأشاد به وبعظيم ملكه وحكمته.. ويضاف إلى ذلك تهمة جسيمة بأنه رسم له خرائط ومعلومات تفصيلية عن بلاد المغرب العربي ليسهل له احتلالها! ويرد البعض هذه التهمة بأن ابن خلدون لم يكن قائداً عسكرياً ولا أميراً، بل مفكر عبقري داهن تيمورلنك مضطراً، ومعارضته لهذا الغازي لن تقدّم أو تؤخّر وفق الظروف آنئذ.. أما رسم الخرائط فتلك تمت تحت إلحاح تيمورلنك الذي يمكن النظر إليه على أنه أصبح من الحكام المسلمين خاصة أن ابن خلدون أهداه مصحفاً قبَّله تيمورلنك ووضعه على رأسه.. كما أن نظرية ابن خلدون الاجتماعية في نشوء وسقوط الدول قد يكون لها تأثير.. إلخ.

وقد وصلت الحالة أن البعض اتهم القائد المحرر صلاح الدين الأيوبي بالخيانة أيضاً، لأنه دخل في مهادنات وتجاذبات مع بعض أطراف الحملات الصليبية، معتبراً أن المناورات التكتيكية خيانة! بل وصل الأمر لدرجة أن البعض زعم أن صلاح الدين باع للصليبيين مناطق من فلسطين.. وهذه التهمة غرضها فئوي لرد التهم التي تطرح من قبل فصيل مخالف بأن ابن العلقمي والطوسي قد باعا بغداد للتتار لأسباب فئوية ضيقة!!

قد يقول بعض العقلاء إن هذا الحوار سلبي حالياً، لكنه طبيعي وصحي باعتبارها مرحلة الأخطاء الضرورية تأهيلاً للمرحلة القادمة، بعد عقود من قمع الحوار وتمترس كل فصيل في خندقه المظلم بعيداً عن المكاشفة ونور الحوار المتبادل بين الأطراف المختلفة.. وإذا كان في ذلك شيء من الصحة، فلا بد من تعجيل الانتهاء من مرحلة الأخطاء الضرورية عبر كشف تهافت منطقها وحججها وعبر التوعية بالمنهج العلمي المتوازن في التحليل والتأويل وتفسير الأحداث التاريخية والحالية..

إنها ضريبة عقود من التعتيم وعدم المكاشفة بين الأطراف الفكرية المختلفة.. فقد كانت - ولا تزال - الجامعات العربية ومراكز الدراسات التي تنتج الأبحاث العلمية الأكاديمية الرصينة تتحرّج من الدخول في مواضيع حساسة وتحجب المقترحات البحثية وخطط الدراسة للماجستير والدكتوراه التي تتناول هذه المواضيع المحرجة.. وقد كانت الأندية الأدبية والمراكز الثقافية تنأى بنفسها عن فتح الملفات الساخنة منعاً للإحراج ومجاملة للأطراف المثقفة بعضها لبعض..

ولقد كان فعل دوائر تشكيل الوعي (أو ربما تغييب الوعي) ما هو أقسى من فعل الجامعات ومراكز الدراسات.. ففي المناهج التربوية، خاصة في العلوم الاجتماعية (وبالذات دراسة التاريخ)، تم تغييب حقب كاملة، وتبسيط حقب أخرى عبر التطرف في المديح التي جعلت من أعلام الطرف المتسيّد في التاريخ ملائكة مطهرين وليسوا بشراً، واختصرت الأحداث بنصر طاهر نظيف لا تشوبه شائبة السياسة ودهاليزها المتشعبة.. وبسطت الروايات التاريخية المعقدة والمتشابكة إلى رواية واحدة هي حكاية خير مطلق انتصر على شر مطلق ببساطة المعادلات الحسابية السهلة.. وكذلك فعلت دوائر أخرى كالإعلام، خاصة المسلسلات التاريخية التي جعلت من التاريخ حكاية ساذجة..

والآن انفتح فضاء الإنترنت، وقد ولج الكثيرون هذه المعامع دون التسلح بالمناهج العلمية أو الحد الأدنى من الوعي التاريخي والسياسي للأحداث، بل ولجوها بحس فئوي ضيق وثارات مؤجلة ونعرات مقيتة، ساحبين المراحل التاريخية من ظروفها الزمانية والمكانية إلى ظروفهم السياسية والإيديولوجية الحالية.. فدخلت الفئات التي كانت روايتها للتاريخ مهمشة في طرح روايتها بنفس طريقة الطرف المتسيّد في رواية التاريخ، فانجرت فئات من كافة الفصائل إلى حوارات انفعالية وتخوين متبادل..

المنهج التاريخي في البحث العلمي يعني ببساطة الفحص والتمحيص للتأكد من صحة المعلومات عبر النقد الخارجي والداخلي للوثائق التاريخية وفق أصول وقواعد عديدة، وعدم الاعتماد على المصادر الثانوية كبديل للمصادر الأولية.. ويتطلب استيعاب الأحداث التاريخية أخذها في سياقها المتكامل، وتقييمها وفقاً لظروفها وليس لظروفنا الحالية..

ويعد الانحياز الشخصي للنتائج من أكبر الأخطاء التي يرتكبها المتحاورون، ناهيك عن التبجيل الذي يصل للقداسة لرموز فريقنا أو التحقير الذي يصل للتخوين لرموز الفرق الأخرى.. فلا يمكن موضوعياً ولا منهجياً اتهام تيار فكري أو مذهب عقدي بكامله بالخيانة أو العمالة لطرف أجنبي كالصليبيين أو التتار.. ربما يمكن اتهام أشخاص أو منظمات إذا امتلكنا الأدلة والقرائن والشواهد عبر سياقها التاريخي والسياسي وظروفها الخاصة في تلك المرحلة.. أما المحاسبة والاتهام والإدانة بالعمالة ضد منهج فكري أو مذهب عقدي، بسبب أفكاره فهو محاسبة للنصوص والمعتقدات، وحجر على الإبداع والتنوّع البشري والاجتماعي، وتخريب الحوار مع الآخرين.

إن تقاطع الأفكار أو المصالح بين جهتين لا يعني أن إحداهما عميلة للأخرى أو أنهما متحالفتان، فمثل هذا التقاطع يحصل كثيراً بين الأعداء. فلو فرضنا انتشار وباء في الشرق الأوسط وقامت الدول العربية بمكافحته وقامت (إسرائيل) بذلك، هل تقاطع المصالح هذا يعني أنهما متحالفتان؟ وهل يمكن القول إن الجهاديين أيام تحرير أفغانستان من الغزو السوفيتي كانوا عملاء لأمريكا، رغم أن أمريكا كانت تدعم المجاهدين!؟.. من المهم أن نعي مسألة تقاطع المصالح والظروف والأفكار، لكي لا نُصدم بمنفعل يكتب لنا: حتى صلاح الدين الأيوبي كان خائناً!!



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد