* تقول الأخبار - وليس كل آفات الأخبار رواتها - إن طريق جبل (كرا)، الرابط بين العاصمتين (الدينية والصيفية)، لن يُفتح مطلع شهر رجب القادم - حسب ما هو منتظر ومقرر ومحدد من قبل - بسبب (حلحلة وخلخلة) في الصخور في قمة الجبل..! |
|
* خبر مزعج.. أليس كذلك..؟ |
* كرا - بالقصر وبالمد، والأولى أصح - هو اسم الطود العظيم، الذي ظل عبر عصوره، فاصلاً طبيعياً بين القريتين المذكورتين في القرآن الكريم - مكة والطائف - ف(كرا).. اسم الجبل كله. أسفله مما يلي شداد فوادي نعمان هو (الكُرّ)، ووسطه هو (المَعْسَل)، حيث تتفتق الصخور هناك، فتخرج منها ينابيع من مياه عذبة، وقمته من جنوبيه هو (المَغْسَل)، حيث أعلى نقطة عند ارتفاع ألفي متر تقريباً. |
* أول يد بشرية سعت لتذليل هذه العقبة الكأداء وفتحها، كانت في حدود عام (430هـ)، فقد شهد كرا، أول طريق سلطاني بدائي. كان درباً مدرّجاً مرصوفاً بالحجارة، بما يسمح عرضه لمرور ثلاثة جمال بأحمالها، عمّره (حسين بن سلامة)، وزير أبي الحسن صاحب اليمن. |
* مرت تسعة قرون ونيف، وكرا على حاله من المهابة والوعورة التي كانت توقف الشَّعر، وتطلق الشِّعر. الشاعر (أحمد بن إبراهيم الغزاوي)، رحمه الله، يصور ذلك في هذين البيتين حين يقول: |
كأن (كراء) في عتو (سنامه) |
على (هامه) الأفلاك تجري وتلهث |
كأن روابي الأرض نيطت جميعها |
إلى سفحه! وهو (الإباء) المورّث |
* ظل الشِّعر عدة قرون، لسان حال المكتوين بمشقة العبور من عقبة جبل كرا، يبوح بشكواهم، ويعكس تضجرهم من هذا الدرب الجبلي الذي يستغرق صعوده بالدواب والأقدام نصف يوم، ونزوله مثلها. قال (محمد أمين المحبي) في هذا المعنى: |
إن كرى.. خصم حياتي فلا |
رأيته أخرى ولو في كرى |
ثم ينصح بالبعد عنه ويقول: |
عج عن كرى.. فهو مزيج الكرى |
والنفس منه نَفَساً تخرج |
* ولعل هذا البيت من لون الغناء اليماني أو الحدري، يختزل معاناة الناس في تلك الفترة من كرب كرا، فيجعلون من الغناء تزكية وتسلية للنفس. يقول شاعرهم: |
ونِّيت ونّة وأنا معطي كرا وارتج نعمان |
وارتج من ونتي كبكب وقصر العابدية |
* وفي جبروت كرا، وتعصيه وتأبيه على المسافرين، وإبان العمل فيه قبيل تذليله، يقول الشيخ (محمد سعيد كمال) رحمه الله: |
بلغ النجم فانتهى وترامى |
وأضل العقول والأفهاما |
وبدا أجرداً كئيباً عميقاً |
يستفز القلوب والأحلاما |
لم يلن صخره لبأس حديد |
أو لطل من السما يتهامى |
أو لنار توقدت في حشاياه |
فظلت تفجر الألغاما |
* في العام (1347هـ)، وقف نائب جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - على الحجاز، الأمير الشاب (فيصل بن عبدالعزيز) - عليه رحمة الله ورضوانه - وقف على قمة الجبل، فقلب بصره، بين شماريخه ومنحدراته. ابتداءً من هذا العام، ولد فجر جديد لجبل كرا في مخيلة وعقل وفهم رجل صاحب بصر وبصيرة، هو (فيصل بن عبدالعزيز). بعد العام (1376هـ) أصبح مشروع شق جبل كرا وتذليله، واقعاً يلمسه الناس الذين يفدون إلى قمة الجبل، ليشاهدوا آليات ومجنزرات تدك الصخور، وتتلوى صعوداً في جبل من أعتى الجبال وأهيبها. كان الناس بين مكذب ومصدق، حتى حل العام (1385هـ)، فجاء إلى قمة الجبل مرة أخرى، صاحب فكرة شق الجبل، الملك (فيصل بن عبدالعزيز)، رحمه الله، ليقص الشريط إيذاناً بفتح الطريق الأسطورة، الذي اختصر مسافة نصف يوم في أقل من ثلث ساعة، وابتداءً من هذا التاريخ المجيد، صار الجبل الصعب سهلاً، والمارد الصخري ذليلاً، ونشطت الحركة بين العاصمتين (الدينية والصيفية)، وتحول جبل كرا، إلى موضوع محبب عند الكُتّاب والشعراء في تلك الفترة. |
* يقول الشاعر إبراهيم علاف: |
تعالى كرا فوق الربوع وسيطرا |
ووجهته أم القرى إذ تصدرا |
وظل على رغم الصروف بهيبة |
وعزة عملاق يطل على الورى |
تصدى له بالعزم والنحت (فيصل) |
وقلده من أملس الدرب خنجرا |
* ومن شعر حسان الملك عبدالعزيز، الشاعر (أحمد بن إبراهيم الغزاوي) رحمهما الله: |
أمنية وتحققت |
ولكم تعاصت أعصرا |
ما كان أن نحظى بها |
يوماً ونطمع أن تُرى |
لولا السعود وحظه |
لأبى التطامن معبرا |
جبل على هامته |
ولد الزمان وعمرا |
* لقد استغرق العمل عدة سنوات، واستهلك المشروع (1200) طن من الديناميت، وتم نسف (4 ملايين) متر مكعب من الصخور. بعد ذلك.. أصبح كرا معبراً سهلاً مرغوباً فيه، غير ما كان بالأمس، فقال الشاعر المبدع (أحمد قنديل) رحمه الله: |
إني طلعت على كرا... بالرجل أيام الحمير |
متشربطاً.. مثل القرود به.. وقد كانت كثير |
متشقق الكعب المنفنف.. كالحبقبق.. يا مجير |
حتى وصلت إلى الهدا.. وأكاد من فرحي أطير |
أقسمت أني لن أعود إلى كرا.. مهما يصير |
لكنني في اليوم.. في سيارة الجار الأثير |
قلفطته.. نعسان.. منجعصاً.. كأني في السرير |
فرنا إلي.. وقال: أهلاً بالحبايب.. يا جرير |
ماذا جرى ؟.. قلت: العجائب فيك ليس لها نظير |
والله يا شيخ الجبال من السراة.. إلى عسير |
لولا المخافة أن يدردب صخرك.. المطر الغزير |
لسكنت فيك العمر. جنب المعسل الحلو النمير |
أرقيك بالحدري.. أقول من الفؤاد.. من الضمير |
قد صرت مفخرة الرجال من الكبير.. إلى الصغير |
* بعد مرور أربعة عقود ونصف، رأت الدولة أن توسع وتهذب طريق (شيخ الجبال)، فتجعله من الطرق السريعة، التي هي واحدة من مفاخر بلادنا المحروسة، وخيراً فعلت مثلما فعلت من قبل بشق الجبل وتذليله، وخدمت الناس زمناً ليس بالقصير. لكن وزارة النقل، لم توفق في فتح طريق بديلة قبل الشروع في العمل قبل ثلاث سنوات، فأصبح الرابط بين مكة والطائف، طريقاً وحيداً هو طريق السيل، الذي اكتظ بالسيارات على طول فيه وملال يعرفه الكل، وكان البديل قريباً من كرا، وهي عقبة الثنية - يعرج - التي لا يزيد طولها على ثلاثة أكيال. |
* كان من المفترض فتح طريق جبل كرا، مع بداية صائفة هذا العام في الأول من رجب القادم، وهي صائفة مختلفة، لأنها بداية موسم دخول شهر رمضان في إجازة المدارس، وذروة الصيف بين الطائف ومكة وجدة، ولكن الأخبار الصادرة عن المشروع، تشي بتقاذف الكرة بين الوزارة والشركة المنفذة. الشركة تتحجج بخطر كامن اسمه (الخلخلة والحلحلة). تقول بأن الصخور في أعلى الجبل (مخلخلة - محلحلة - مهلهلة)، بفعل تفجيرات الديناميت، وإذا لم يجر تثبيتها، فقد تسقط على العابرين، وتشكل خطراً عليهم. وهذا يعني عدم فتح الطريق في الموعد المحدد والمقرر غرة رجب القادم، وهو يعني بالتالي، مزيد من التنغيص على الذين ظلوا ثلاث سنوات ينتظرون هذه اللحظة الجميلة، خاصة أولئك الذين ذاقوا مرارة السفر عبر طريق السيل، وجربوا السير بمحاذاة شاحنات تتسابق عليه، أو ارتال منها واقفة في المنتصف، بعد عطل أو حادث صدم يستغرق وقتاً طويلاً لمعاودة السير من جديد، ونحن نتذكر كيف كان (سرا) السيارات في قدوم الحج من الزيمة حتى السيل الكبير، وكيف مكث المارة ست إلى ثماني ساعات في انتظار عبور نقطة أمن الزيمة. |
* مرة أخرى، يعود بنا شيخ الجبال، إلى سابق عهده. إن الجبل الذي كان صعباً فأصبح سهلاً، ها هو اليوم يعود صعباً من جديد، والفضل في الحالة الجديدة، تلك (الخلخلة والحلحلة)، الذي تبرأ من نتائجها المقاول، ورمى بها كرة ملتهبة في مرمى وزارة النقل. |
* هل كانت الوعود المبنية على عقود (مهلهلة) هي الأخرى، إلى حد أن نُصدم بواقع جديد، يرمينا في أحضان طريق السيل من جديد، ويؤجل فرحتنا عاماً رابعاً أو نصف عام..؟! |
|