رغم التقدم التقني الذي يعيشه العالم اليوم، وازدهار الصناعات والمخترعات، والأنظمة العالمية الجديدة، فقد أخفق بمنظماته ومؤسساته ومخترعاته أن يحقق السعادة للإنسان، أو أن يوفر الأمن والراحة للبشر، وها هي نسب مرض العصر القلق والاكتئاب تزداد يومًا بعد يوم، وها هو الفقر والجهل، والجوع والقتل، والانتحار وانهيار القيم والمبادئ والأخلاق.. تتضاعف أرقامه كل عام، يقول العالم الأسباني فيلا سبازا: (إن جميع اكتشافات الغرب العجيبة ليست جديرة بكفكفة دمعة واحدة، ولا خلق ابتسامة واحدة للإنسان..). ويقول إلكسيس كاريل: (إن الحضارة العصرية لا تلائم الإنسان كإنسان.. وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة.. إننا قوم تعساء لأننا ننحط أخلاقيًّا وعقليًّا..) وقل مثل هذا عن بعض المنتسبين للإسلام؟ أموال ومناصب وأحلام، لكنهم في هموم وغموم وآلام، فأين المخرج؟ وإلى أين المفر؟ إنه القرآن!
فهو (القرآن عز الأمة وسعادتها)، وأس العلم والعمل والطمأنينة، ومادة الثبات في زمن تلاطم الأفكار وتغير المفاهيم، والسد المنيع لمواجهة الفتن والشبهات والشهوات.
وفي مثل هذا الزمن كلنا يحتاج للقرآن ليشد إيماننا ويقيننا لنثْبُتَ أمام تلكم الشهوات والتحديات، كل مسلم يحتاج للقرآن ليؤنسه إن تطرقت إليه وحشة، ويسليه ويواسيه إن ألمت به مصيبة، ويرجيه ويعده إن ضاقت به حال، أو طاف به طائف اليأس والقنوط من روح الله، وينذره ويخوفه إن استولى عليه هوى.
وعلى أمة القرآن أن توقن أنه لا رسوخَ لقدمٍ، ولا أنس لنفسٍ، ولا تسلية لروحٍ، ولا تحقيق لوعد، ولا أمن من عقاب، ولا ثبات لمعتقد، ولا بقاء لذكر وأثر مستطاب إلا بأن نتجه بكامل أحاسيسنا ومشاعرنا وقلوبنا إلى كتاب ربنا إلى القرآن الكريم، تلاوةً وتدبرًا وتعلمًا وعملاً.
إن هذا المفتاح يفتح مغاليق القلوب، فالقرآن مفتاح القلوب،(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).
إنه نور القلوب الذي لا تستضيء إلا به، وحياة الأرواح وشفاؤها، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، فالقرآن هو الذي يحقق السعادة للإنسان، وينشر الأمن والاطمئنان، عز وفخر ورفاهية وأمان، كل هذا يحققه القرآن، وسنة خير الأنام، (لقد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي).
ولسنا بحاجة إلى أن نبين حقيقة صدع بها الأصدقاء، وشهد بها الأعداء؟ أو أن نذكر بتلك الحقيقة التي آمن بها المؤمنون، واعترف بها المعاندون؟ ولسنا بحاجة أن نؤكد أن هذا القرآن الكريم ذروة عالية، وقمة سامقة في بلاغة الأسلوب، وإعجاز البيان، وأنه أعجز فرسان الكلام، وفحول البيان؟! ولسنا بحاجة أن نكرره كلما أردنا الحديث عن قرآننا، فيكفينا عزةً وفخرًا أنه كلام ربنا.
إننا نسمع الكثير ممن يحاول أن يبرهن لأعدائنا عن قوة البيان والتأثير في قرآننا، ولو صدقنا مع أنفسنا لقلنا: أين تأثيره في نفوسنا؟ وأين قوارع بيانه على قلوبنا؟ أليست هذه حجة لغيرنا على بعدنا وضعفنا، أين نحن عن قرآننا، نور قلوبنا، ودستور حياتنا، فضل الله ونعمته الكبرى لنا.
إننا بحاجة ماسة بين الحين والآخر إلى من يذكرنا ويعظنا، ويرقق قلوبنا، ويعيننا دائمًا على الطريق المستقيم، بلا إفراط ولا تفريط.
وهناك نفوس معتدلة تقبل وتتأدب، بل وتفرح وتطلب مثل هذا التذكير، ولكن هناك صنف آخر من المسلمين قد ابتعد كثيرًا عن آداب الإسلام وأخلاقه، بل عن كثير من توحيد العبادة وما يليق بجلاله؛ من المحبة والتعظيم والخضوع والتسليم، وهؤلاء لا بد لهم من قوارع ومواعظ قوية تنبههم من غفلتهم، وتخرجهم عن غيهم، وليس أقوى من قوارع القرآن الكريم، الذي أثر في العرب تأثيراً بالغاً ليس بنظمه المعجز فقط بل بزواجره ونواهيه وطريقة عرض قصصه في كل سورة.
فهل سمع هؤلاء قول الحق عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
هل قرأ هؤلاء في القرآن: (قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ).
فلماذا لا يصارح هؤلاء الذين استعبدتهم التقاليد والمظاهر التافهة وأصبحت كلماتهم وأفعالهم أبعد ما تكون عن الإسلام، لماذا لا يصارحون بأن ما هم فيه إنما هو من ضعف الإيمان، والبعد عن تدبر آيات القرآن؟! وفي قصص القرآن وأمثاله المضروبة وأحاديث الرسول أثر عجيب في إصلاح النفس وردعها ووضعها على الصراط المستقيم.
يا أهل القرآن: متى ندرك أن التحضر والتقدم لا ينافي التمسك بالدين، وأن هذا القرآن نور وهدى للمسلمين؟!
إننا نتساءل وبدهشة: هل شرط التحضر والتقدم أن نعصي الله ونخالف أوامره؟! إن كان الأمر كذلك فهذا هو التخلف بعينه، فإنه رجوع لعصور الجهل والشرك والظلام، وعبادة الشهوات وأصنام الهوى!! (إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)، فهل هو جهل بالقرآن، أم حياء من الأخذ بحقيقة الإسلام، أم هي الشهوات واللذات والاستسلام؟! فالقرآن يا أهل القرآن يدعو إلى التقدم في جميع الميادين، وفي كل أمر من أمور الدنيا أو الدين، لكنه ذلك التقدم المنضبط بآدابه الكريمة، وتعاليمه السماوية، لقد تعجب العقلاء والعلماء من غير المسلمين من هذا القرآن الكريم، الذي سبقهم للتفكر والتقدم بمئات السنين، في وقت هُجر القرآن من الكثير من المسلمين؟!
أيها القراء الكرام! بهذا القرآن العظيم أُخرجنا من الظلمات إلى النور، وبهجره نعود للظلمات، بهذا القرآن كنا خير أمة أخرجت للناس، وبهجره نعود لحياة الذل والهوان، بهذا القرآن بلغت هذه الأمة ذروة الفضائل والمجد، وبهجره تنحدر في هوة الرذائل والصد.
لا نعجب فقد شهدت الأرض ميلادًا عظيمًا بنزول القرآن على محمد (صلى الله عليه وسلم) إذ شع نوره عليها، وأورقت أغصانها، وسرت الحياة الطيبة في عروقها، نزل القرآن على العرب فأحسوا -وهم الفصحاء- أنهم ضعفاء أمام هذا الكمال العظيم، فاستسلموا لبلاغته، وتعلقت قلوبهم به وارتبطت نفوسهم بإعجازه.
فأين أثره في نفوس أهل هذا العصر؟! إن بعض الناس من المسلمين جعل بينه وبين سماعه حاجزًا، بل جعل بينه وبين سماع أي خير سدًّا، حاله كمن جعلوا أصابعهم في آذانهم، زعم أنه إن سمع قامت عليه الحجة، وفسدت عليه الشهوة واللذة، وما علم المسكين أنه ربما بسماع آية أو حديث يكون فك أسره، نعم أَسْرُ قلبه ولبه ؛ فأسر القلب أعظم - وربي - من أسر البدن، فكم من أسير للشهوات والدندنات، لم يذق حلاوة الإيمان، ولا لذة قراءة القرآن، ربما يكون في سماع الخير نجاة لك، وسعادة أبدية لنفسك، فافتح قلبك فقد جعل الله لك آذانًا لتسمع فلا تعطلها، وجعل لك عقلاً لتعقل فلا تُغيبه بالهوى.
يا أمة القرآن، إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح، روح الاستجابة والعمل، فحينما نزلت آية تحريم الخمر مثلاً مشى رجل في سكك المدينة يعلن: ألا إن الخمر قد حرمت؟ فماذا حصل؟! كل من كان في يده قدح خمر رماه، بل كل من كان في فمه شربة مَجّها، ومن كان عنده في أوان أراقها، استجابةً وطاعةً لأمر الله تعالى، نسأل الله تعالى أن يرزقنا طاعته، وسرعة الاستجابة، وأن يرزقنا فهم القرآن وتدبره والعمل به، آمين.
جامعة القصيم