في مساء يوم الاثنين الموافق 21-5-1429هـ عمَّت مشاعر الحزن والأسى بوفاة أحد رموز الوطن البارزين في علمه وفي خلقه وفي تواضعه معالي الدكتور صالح بن عبد الله المالك أمين عام مجلس الشورى إثر مرض عضال عانى منه كثيراً، فقد كان - رحمه الله - يعالج داخل المملكة وعندما اشتد عليه المرض سافر إلى أمريكا للعلاج في مستشفى اكليفلند، وكان أثناء علاجه هناك ورغم ما يعاني منه من أمراض وأوجاع كان دائم الاتصال بنا يسأل عن أحوال أسرته وعن أخبار الوطن ومستجداته مؤمناً صابراً محتسباً بما يعاني منه من الأمراض والسهر والقلق على أسرته التي ودعها في الرياض وهو لا يعلم ماذا يخبئ له القدر.
وبعد حوالي عشرة أشهر من العلاج هناك عاد إلى الرياض ودخل مستشفى الملك فيصل التخصصي لمواصلة العلاج واستمر يعالج فيه إلى أن توفاه الله.
كان - رحمه الله - مثالاً للوفاء والأخلاق الطيبّة في كل أعماله واصلاً لأقاربه وأصدقائه ومحبيه، فالكثير منهم شملتهم أفضاله وأعماله الخيّرة ولن ينسوا له ذلك، بل ستبقى ذكراه وأعماله الطيِّبة عالقة في أذهانهم، فالجميع بكوه وحزنوا كثيراً لرحيله وهم مؤمنون بأن هذه إرادة الله وقضاؤه وأن هذه الدنيا لا تصفو لأحد، بل هي فانية ومصير كل مخلوق.
تربيت وعشت أنا وإياه أيام الطفولة وسنوات الصبا حياة سعيدة مليئة بالود والذكريات الجميلة وتزاملنا في مدرسة واحدة إبان افتتاح أول مدرسة ابتدائية بالرس عام 1363هـ وبعد التخرّج منها انتقلنا إلى الرياض وواصلنا الدراسة في معهد الرياض العلمي بعد افتتاحه عام 1371هـ وبعد الدراسة في المعهد اتجهت أنا إلى سلك الوظيفة عام 1376هـ واختار هو مواصلة الدراسة. وكان - رحمه الله - متفوّقاً في دراسته حصل على الشهادة الجامعية الأولى من جامعة الإمام عام 1379هـ والثانية حصل عليها من كلية الآداب بجامعة الملك سعود عام 1381هـ. ثم سافر إلى أمريكا وأكمل دراسته العالية، حيث حصل على شهادة الماجستير الأولى عام 1388هـ والثانية عام 1390هـ في علم السكان وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1393هـ في علم الاجتماع الحضري من جامعة متشجن. عاد بعد هذا الإنجاز العلمي إلى الوطن الحبيب ليواصل جهده وثمار دراسته في مجال آخر هو مجال العمل وخدمة وطنه ومواطنيه.
عمل في بادئ الأمر في جامعة الملك سعود عام 1393هـ ثم في جامعة الإمام عام 1394هـ أميناً عاماً للجامعة.
وفي عام 1396هـ صدر الأمر السامي بتعيينه وكيلاً لوزارة الشؤون البلدية والقروية، ومن حسن الحظ أن تتكرر زمالتي له في مجال الوظيفة في هذه الوزارة، إذ سبقته للعمل فيها بتسع سنوات عملت معه - رحمه الله - في مكتبه وتحت إدارته ثلاثة عشر عاماً استفدت أنا ومَن معي من موظفي المكتب من خبراته وآرائه وتوجيهاته؛ فقد كان - رحمه الله - نموذجاً حيّاً للمسؤولية والقيادة الناجحة يعمل بأمانة وإخلاص وكان يوصينا بالمعاملة الطيّبة وحسن الاستقبال للذين يرغبون في مقابلته في مكتبه سواء من الموظفين أو المراجعين يستقبلهم ببشاشة وتواضع، يسمع منهم ويستعرض طلباتهم ويوجّه المسؤولين بالوزارة بدراستها وإنهائها، يخرج المراجع من مكتبه وهو راض ومقتنع بوجهة نظره وحسن استقباله ولهذا أحبه الجميع وتأثروا وأسفوا كثيراً عند طلبه التقاعد المبكر.
وفي عام 1408هـ رغب في التقاعد المبكر فقبل طلبه وتفرّغ - رحمه الله - إلى إنشاء مركز للبحوث التنموية، حيث قام المركز بتنفيذ عدة دراسات حقلية وعلمية لكل من القطاع الحكومي والقطاع الخاص.
وفي عام 1414هـ عاد إلى الخدمة الحكومية، حيث صدر الأمر السامي بتعيينه عضواً في مجلس الشورى ومدّد له في عضوية المجلس ثلاث مرات.
وفي عام 1426هـ حاز على ثقة ولي الأمر، حيث صدر الأمر السامي الكريم بتعيينه أميناً عاماً لمجلس الشورى بالمرتبة الممتازة واستمر في عمله هذا يواصل عطاءه ونشاطه إلى أن توفي - رحمه الله - وهو على رأس العمل.
عمل - رحمه الله - في الحقل الأكاديمي والإداري والاستشاري وبحوث التنمية وعمل أستاذاً في بعض الجامعات السعودية والسويسرية والأمريكية. وشارك في العديد من المحاضرات والندوات في الجامعات والمؤتمرات العلمية داخل المملكة وخارجها. ونشر له الكثير من الكتب والدراسات الميدانية والمقالات والبحوث الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والإدارية، وكان - رحمه الله - إلى جانب عمله وكثرة مسؤولياته عضواً في مجالس إدارات كثير من المؤسسات الحكومية والأهلية.
رحم الله أبا هشام، فقد كان ظاهرة علمية فريدة ومدرسة جامعة شاملة وموسوعة في كل الاختصاصات العلمية والدينية والعربية والاجتماعية والجغرافية والتشريعية والاقتصادية والرياضية وغيرها. ملماً بالأنظمة والقوانين وحجة ومرجعاً لأي معلومة، حباه الله موهبة وذاكرة جيدة في حفظ تاريخ مختلف المواقف والأحداث التاريخية والوقائع والمناسبات.
كان - رحمه الله - فاكهة مجلس أسرته ونبراسها المضيء ديناً وخلقاً وأدباً وتاريخاً استفاد منه الجميع بحضوره المميّز وخبراته الواسعة وسرعة بديهته ومعرفته للمواقف والأحداث التاريخية. حتى مع الأطفال وصغار السن كان متواضعاً يداعبهم بلباقة ويحكي لهم بعض القصص المسلّية والأحاجي والألغاز والألعاب المختلفة ويوجّههم إلى المحافظة على الصلاة والتحلّي بالأخلاق الطيِّبة.
رحل - رحمه الله - وخلَّف آثاراً طيِّبة أداها بكل أمانة وإخلاص لربه ودينه ووطنه في جميع الجهات الحكومية والأهلية التي عمل فيها.
لقد أدى الصلاة عليه - رحمه الله - وشيّعه إلى مثواه جمعٌ غفيرٌ من الناس حضروا من مختلف مناطق المملكة وامتلأ منزل العزاء بجموع كثيرة من المعزين من مسؤولين وعلماء وأدباء ومن وجوه المجتمع وعامته، فالجميع يعرفون وفاءه وفضله وأعماله الحافلة بطاعة ربه وخدمة وطنه ومواطنيه. ولا شك أن رحيله خسارة كبيرة للوطن لما اتصف به - رحمه الله - من خصال حميدة متعددة. وسيبقى اسمه لامعاً وخالداً في الأذهان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا وأولاده وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان وأن يجمعنا به في الفردوس الأعلى. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.