Al Jazirah NewsPaper Friday  30/05/2008 G Issue 13028
الجمعة 25 جمادى الأول 1429   العدد  13028
طبيب المسلمين ابن سينا
د. محمد بن سعد الشويعر

يضرب المثل بابن سينا، في الطب العربي، ويقول أحد الغربيين: يحقّ للعرب أن يفخروا بأمثال ابن سينا والفارابي لأنَّ لهما مكانة علمية، وقدماً راسخة في الطب والفلسفة، حتى أن أوروبا في نهضتها الحديثة، كانت تحترمهما، وتعترف بفضلهما.

بل إن نظريَّاتهما في الطب وتركيب الأدوية كانت اللَّبنات الأولى في التأسيس العلمي، لأعْرَقِ جامعة في أوروبا، هي جامعة السربون بفرنسا، التي يوجد في جنباتها، مجسمات تمثاليّة لهما حتى الآن.

بل إنني قرأت: بأن علومهما في الطب والفلسفة كانت تدرس في الجامعة باللغة العربية لقرنين من الزمان قبل أن تُتَرْجَمْ.

وهذه منقبة حميدة، يفخر بها كل عربي، ولا يقرّ بذلك إلا المنصفون من علماء الغرب، الذين يقدِّرون مكانة العلم لذات العلم، والذي يؤكد بأن الغرب في نهضته الحديثة استفاد من القاعدة العلمية التي أرسى دعائمها علماء العرب في كل الفنون.

وهذا ليس بغريب، فحضارات الأمم كلّما ضعفت في دولة، قامت على قواعدها المؤسسة دولة أخرى.. وهكذا يستفيد اللاحق من السابق، ألم يخبر جل وعلا عن شيء من هذا القبيل في أكثر من موضع من كتابه العزيز، حيث يقول جل وعلا: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (9) سورة الروم.

ويقول سبحانه: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ}(21) سورة غافر.

فالأمم لها أعمار كعمر الإنسان، وحضارتهم وآثارهم يبقى لها جذور تنبئ عن ما أعطاهم الله من علم وقوة، ومراحل نمو الإنسان طفولة فيها الضعف، ثم شباب وفتوَّة يتبعها كهولة وشيخوخة وهرم ثم الفناء.

ولذا فإن البشر بما أعطاهم الله من قوّة، وما منحهم من عقول في شؤون حياتهم الدنيا، وبناء حضارتهم، يستفيدون ممن قبلهم، ولا غضاضة في ذلك.

ويعجبني في هذا قول الإمام سفيان الثوري وغيره من علماء المسلمين، إذا حُدِّث أحدهم في موضوع، وجرى تنازع، فينتهون إلى مثل هذا القول: هم رجال ونحن رجال، ولهم عقول ولنا عقول.

والذي دفعني للتحدث عن ابن سينا بيت شعر مرَّ بي، جاء في مخطوطة للشيخ أحمد بن دعيج، وهو واحد من علماء مدرسة الدرعية التي ازدهرت: علماً وحضارة ما بين عام 1160هـ إلى عام 1233هـ، مع الحضارة الجديدة التي انبعثت من قلب جزيرة العرب، وازدهرت في الدرعية مع قيام الدولة السعودية في دورها الأول.

فقد أقحم الشيخ ابن دعيج اسم ابن سينا، مُستشهداً به في ملحمتِهِ تلك بقوله:

(ترا ابن سينا عنه ما أغنى ذكاؤه).

فدفعني هذا الشطر للبحث عن سيرة هذا العالم، المشهور بذكائه الحادّ، وعبقريته الفذة، ومجهوداته العلمية، التي خلدت ذكره في العالم الغربي، زيادة عما هو معروف به في العالم الإسلامي والعربي.

فقد نفع الله بآرائه وأعماله الطبية والفلسفية خلقاً كثيراً في وقته وبعد وفاته، وقد خلده ذلك منذ ذلك الحين حتى الآن نتائج وآثاراً وعلماً يتجدد، فقد اختلف إليه علماء وفضلاء الطب وكبراؤهم، يقرأون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسِنه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة.

فكنت أقلب الأمر فيما قال الشيخ ابن دعيج، ولماذا استثنى الشيخ في منظومته، ذكاء ابن سيناء الخارق، وأعماله المشهورة، ونفعه العام الذي عرفه الناس عنه.

ومع ذلك يقول إنه لم ينفعه اجتهاده، وهو الذي يمحض الناس رأيه، ويساعدهم في التغلب على ما يمر بهم: صحياً بالعلاج، واجتماعياً بالمشورة والمساعدة.

فوجدت في سيرة حياته، عند ابن فلكان في كتابه عندما ترجم له، يقول: إن ابن سينا قد أعطي لقب الرئيس في وقت مبكر من حياته، وكان يتحدث عنه في سيرة حياته: باسم الرئيس، مما يدل على مكانته المبكرة، فيقول: ولد الرئيس في قرية: (قرمتينا) من أمهات قرى بخارى، وتنقل الرئيس بعد ذلك في البلاد، واشتغل بالعلوم وحصل في كل فن من الفنون.

ولما بلغ العاشرة من عمره كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب، وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة، بذكاء خارق، وحافظة عجيبة، والتقى الحكيم أبا عبدالله الناتلي، فأنزله أبو الرئيس عنده، فابتدأ ابنه الرئيس يقرأ عليه كتاب: (إيساغوجي)، وأحكم عليه علم المنطق و(أقليدس) و(المقسطي)، وهذه من علوم اليونان.

وفاق أستاذه أضعافاً كثيرة، فبيّن له رموزاً، وفهمه إشكالات لم تخطر ببال أستاذه (الناتلي)، وقد فتح الله عليه علوم الطب، وتأمل الكتب المصنفة فيه، وعالج الناس، تأدباً لا تكسباً، وأصبح عديم القرين.

فكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد، وصلى ودعا الله، أن يسهلها عليه، أو يفتح مغلقها له.

وقد عالج الأمير الساماني، صاحب خراسان حتى برئ، وقربه عنده، ودخل إلى دار كتبه، وفيها من كل فن من الكتب المشهورة مما لا يوجد في سواها، فظفر بكتب من علم الأوائل، وحفظ منها الكثير، ولم يستكمل (18) عاماً من عمره حتى حصَّل علوماً كثيرة.

ولعل ما قصده الشيخ ابن دعيج، بقوله: (ما أغنى عنه ذكاؤه) يؤخذ من هذه الحكاية، التي وأردها ابن خلكان بقوله: وكان أبو علي - وهذا لقب ابن سينا - قوي المزاج، وتغلب عليه قوّته في الجِمَاع، حتى نهكته، فلازمته حتى أضعفته، ولم يكن يداوي مزاجه، بعكس أبو مسلم الخراساني.

اشتد على ابن سينا (القولنج)، وهو مرض معوي مؤلم: سبّب التهاب القولون (المعجم الوسيط) 2 - 767، فحقن نفسه، في يوم واحد ثماني مرات فقرح بعض أمعائه، وظهر له سَجْحٌ - خدش وتقشّر - فحصل له الصرع بعد القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كِرْفِسْ - وهو عشب له جذور وثمرته جافة تؤكل (المصدر السابق 2-783)، فجعل الطبيب الذي يعالجه وهو من تلاميذه، فيه 5 دوانق منه - فهل كان خطأً أو متعمّد - فازدادت الجروح به حدة من أثر الكرفس.

فضعف جداً، وأشرفت قوته على السقوط، فأهمل المداواة، وقال: المدبّر الذي في بدني، قد عجز عن تدبيره، فلا تنفعني المعالجة.. وشعر بدنوّ أجله.

ثم اغتسل وتاب، وتصدّق بما معه من مال على الفقراء، وردّ المظالم على من عرفه، واعتق مماليكه، وجعل يختم القرآن الكريم كل ثلاثة أيام.. ولم يطل به الوقت، ومات بهمذان يوم الجمعة من شهر رمضان سنة 428هـ، ودفن بها، إلاّ أن ابن الأثير ذكر وفاته بأصبهان، والأول أشهر. وذكاؤه وعلمه في الطب لم ينفعه، وهذا موضع الشاهد.

وكان ابن سينا نادرة عصره، في علمه وذكائه، وتصانيفه، فقد صنف كتاب الشفاء في الحكمة، والنجاة والإشارات، والقانون، وغير ذلك مما يقارب مائة كتاب، ما بين طويل وقصير..

وقد حظي بدراسات عديدة وكتابات عنه قديماً، ونشرات وبحوث في ذكرى الألف لوفاته، وكتب عنه الأب جورج قنواتي عام 1950م كتاباً موسّعاً، وأثنى على مؤلفات ابن سينا وغيره.

التربية الصالحة:

جاء في كثير من المصادر، أن مشايخ أهل المدينة حدّثوا: أن فروخاً والد ربيعة الرأي، واسمه أبو عبدالرحمن بن ربيعة، خرج في البعوث إلى خراسان، أيام بني أمية، غازياً وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته: أم ربيعة ثلاثين ألف دينار.

فقدم المدينة بعد (27) سنة، وهو راكب فرساً, وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟ فقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي. فتواثبا وتلبّب كل واحد منهما بصاحبه، حتى اجتمع الجيران، فبلغ الإمام مالك بن أنس، وهو تلميذ ربيعة، والمشيخة في المدينة، فأتوا يعينون شيخهم ربيعة الرأي، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان. وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي.. وكثر الضجيج.

فلما أبصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري وأنا فروخ، فسَمِعت امرأته كلامه فخرجت، وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا.

فدخل فروخ المنزل، وقال: هذا ابني؟ فقالت: نعم، قال: اخرجي المال الذي لي عندك، وهذه معي أربعة آلاف دينار، قالت: قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن بن زيد، وابن أبي علي اللهبي، والمساحقي وأشراف أهل المدينة، وأحد من الناس به، فقالت امرأته لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، فأفرجوا له قليلاً، فنكس ربيعة برأسه، يوهمه أنه لم يره، وعليه دنيّة طويلة، فشكّ أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا: هذا ربيعة الرأي بن أبي عبدالرحمن، فقال: قد رفع الله ابني.. ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها.

فقالت أمه: فأيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار، أو هذه الحالة التي هو فيها؟ فقال: لا والله بل هذا، فقالت: فإني أنفقت المال كله عليه، قال: فوالله ما ضيعته.

قال عنه سوار بن عبدالله: ما رأيت أحداً أعلم من ربيعة الرأي، ولا الحسن وابن سيرين، وما كان بالمدينة رجل أسخى بما في يديه لصديق أو غيره من ربيعة، أنفق على إخوانه أربعين ألف درهم، ثم جعل يسأل إخوانه، فقيل له: أذهبت مالك، وأنت تُخْلِقُ جاهك، فقال: لا يزال هذا دأبي ما وجدت أحداً يغبطني على جاهي (سير أعلام النبلاء، وتاريخ بغدد وتذكرة الحفاظ).



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد