كان الضبني أحد علماء قرطبة، غير أنه شحيح يقتر على نفسه وعلى عائلته، ويظهر الفقر والعوز، رغم قربه من حاجب الخليفة ووزرائه وبذلهم ونوالهم. وتضايق أهله وذووه من وضعهم ولاموه وشكوه إلى أقربائهم فلم يثنه ذلك ولم يغير من طبعه، فاجتمع عليه أهله وعزموا على قتله، فدخلوا عليه غرفة نومه، وخنقوه فمات، وادعوا أنه مات حتف أنفه. قرأت هذه القصة فتذكرت فصلاً من كتاب اسمه (رسائل لم ترسل) ومن ضمنها رسالة إلى بخيل: (كنتَ ومازلتَ للمال جمَّاعاً، وللخير منَّاعاً، عطاؤك قليل في منٍّ، ومنعك كثير في نهرٍ، فكأنك لم تقرأ قول الله جلَّ جلاله (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) وقوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ). امتلأ وعاؤك وفاض، وجفَّ نوالك وغاض. هجر بابك السائلون، وتوارى عن ناظريك القاصدون. جاء المنشدون وقد أعدوا قصائدهم فخاب ظنهم، وعادوا وهم يرددون قول أبي منصور السعدي: |
يا جامعاً للمال يا مانعاً |
ألم تثق بالرازق الباعث |
من شح بالمال على نفسه |
جاد به قهراً على الوارث |
أيها البخيل: انفق لحاك الله، مما أعطاك الإله، وبادر إلى نيل العلا قبل أن توارى في الثرى، واسرع إلى اللوت قبل الفوت، فما أنت بخالد، ولا الدنيا لك باقية. اشرب من معينها، قبل أن يدركك طينها. ومتِّع ناظريك بحسنها، قبل أن تكشِّر عن نابها، فإن وجهها إن كشَّرت لقبيح، وإن نابها لعمري سنين. |
أيها البخيل: انفق، وسيخلف الله عليك، إن وافق ظاهرك باطنك، وسيرزقك من حيث لا تحتسب. كأنك لم تقرأ التاريخ، ولم تسمع بالشعراء، فما رأيك إن كنت كذلك، في شعر الحطيئة الشاعر وهو يصف أعرابياً كان جالساً مع زوجته وأبنائه في الصحراء، فقدم إليهم ضيف، مع قلة ذات اليد، فيسر الله أمرهم بمرور قطيع من حمير الوحش فاصطادوا منه أسمنه، فقال واصفاً حالهم وحوارهم: |
رأى شبحاً وسط الظلام فراعه |
فلما بدا ضيفاً تسور، واهتما |
فقال ابنه لما رآه بحيرة |
أيا أبت اذبحني! ويسِّر له طعما |
ولا تعتذر بالعدم علَّ الذي طرا |
يظن لنا مالا فيوسعنا ذما |
فروّي قليلا، ثم أحجم برهة |
وإن لم يذبح فتاه فقد همَّا |
فبيناهما عنَّت على البعد عانة |
قد انتظمت من خلف مسحلها نظما |
عطاشا تريد الماء فانساب نحوها |
على أنه منها إلى دمها أظما |
فأمهلها حتى تروت عطاشها |
فأرسل فيها من كنانته سهما |
فخرَّت نحوص ذات جحش سمينة |
قد اكتنزت لحما، وقد طبقت شحما |
فباتوا كراماً قد قضوا حق ضيفهم |
فلم يغرموا غرما، وقد غنموا غنما |
وبات أبوهم من بشاشته أباً |
لضيفهم والأم من بشرها أمّاً |
أيها البخيل: لقد سارت الأمثال بأمثالك، فقالت في أشعب ما قالت، وثنَّت بعبد الملك بن مروان، مع كونه أحد خلفاء بني أمية، وثلثت بعيسى حيث قال الشاعر واصفاً إياه: |
يقتر عيسى على نفسه |
وليس بباق ولا خالد |
ولو يستطيع لتقتيره |
تنفس من منخر واحد |
وأخشى أن تكون الرابع، إن لم تتعظ بغيرك. وعلى النقيض منك انظر إلى حاتم طي وما ناله من مجد، وإلى معن بن زائدة وما بلغه من سؤدد، وإلى البرامكة وما حظوا به من شأو، وانظر إلى قصيدة الحطيئة في بني أنف الناقة حيث أحالت الذم مدحاً، وقصيدة الفرزدق في زين العابدين التي أصبحت مثلاً، وقصيدة بشار في واصل بن عطاء، عندما جانب الراء، وقصيدة الحارث اليشكري في قيس بن شيبان، والتنويه بأمه مارية بنت سيار، وإلى قصائد النابغة في ملوك غسان، وجرير في بني مروان، وأبو نواس في بني العباس، والمتنبي في أبي فراس، وابن زيدون في ابن جهور، وابن حمديس في يحيى بن تميم، وإبراهيم بن سهل في عمرو بن الجد، وابن هاني في المعز. |
أيها البخيل: تفرق عنك الأقرباء والأصدقاء، وفارقك الضعفاء، وتجاوزك المنافقون والشعراء، وبقيت مع البيضاء والصفراء، فاسمع لها إن كانت لك مؤانسة، وأفد منها إن كانت لك مجالسة، فما هي إلا قطع معدن، أو وريقات من الخشب المنقي، لا تطرب أذناً، ولا تفرِّج هماً، إلا بصرفها في مواضعها، فأصرفها، قبل أن تُصرَف عنها رغم أنفك، بموت قادم لا محالة، أو مرض عضال يشغلك عنها، وقد تؤول لمن لا يحسن إدارتها، فيستمتع بها سواك من الأراذل والمنافقين، فتكون نعم الخازن لأصحاب السوء، وأعلم أنك قد قدمت إلى هذه الدنيا وأنت لا تملك ديناراً ولا درهماً، فاجتمعت لديك، واستقرت بين يديك، والله أعلم كيف أقبلت، وأي طريق |
|