انتهت الجمعية السعودية قبل عدة أسابيع من إقامة لقاء علمي دولي عن (الأسرة السعودية والتغيرات المعاصرة) رعاه الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية حفظه الله، وشارك فيه 34 باحثا ومحاضرا ومدربا، وكان هناك إجماع على أهمية الأسرة، وأنها أهم مؤسسة اجتماعية في الحياة، وأنها خط الدفاع الأول ضد الأمراض الاجتماعية، وكان هناك تأكيد على أن المرأة هي أهم عنصر في الأسرة، وأنها عمودها الفقري، ولذلك جعل الإسلام الجنة تحت أقدام الأمهات، وأعطى للأم 75% من أحقية الصحبة، وأبقى للأب 25% فقط، وما ذلك إلا لأن الأم هي المحضن للجيل، وهي الأقرب إليه بيولوجيا، ونفسيا، وعاطفيا، واجتماعيا، ولا يمكن أن يكون هناك أسرة معافاة بدون أم، وكثيرا ما قيل بأن اليتيم ليس من مات أبوه، بل من ماتت أمه، ولقد أدرك الغربيون الخسارة الكبيرة التي لحقت بالمجتمع من جراء تدمير الأسرة من خلال تغيير دور المرأة، فلا أحد يشك في أن الغرب متقدم صناعيا، وعلميا، وعسكريا، ولكن رغم كل ذلك لا أحد يشك أن تلك المجتمعات، وخاصة المجتمع الأمريكي الذي عشت بين ظهرانيه ثمانية أعوام تقريبا هو من أكثر المجتمعات أمراضا وعللا اجتماعية، فالذين ينتحرون كل عام تصل أعدادهم إلى ثلاثين ألف شخص، وهذا يعادل ستة أضعاف ما قتل في العراق من جنود خلال خمسة أعوام، ويقتل عمدا كل عام عشرين ألف شخص، أربعة آلاف منهم من النساء، نصفهن يقتلن من قبل الزوج أو الشريك، هذا فضلا عن الأمراض النفسية، وأمراض الاغتراب، والشعور بالوحدة ومقابلة الحياة بانفراد، ولا شك لدي بأن (غري نيلر) عندما وجه رسالته للملك عبدالله كان يدرك هذه الحقيقة، لقد قال في تلك الرسالة التي نشرتها الحياة في عددها الصادر يوم 19-5-1429هـ (أحيي فيك وفي شعبك المحافظة على الدين والأخلاق أولا وقبل كل شيء، إضافة إلى احترام الخط الحيوي بين الرجل والمرأة، والتي هي سبب سقوطنا في أميركا أخلاقيا ومدنيا واجتماعيا).
هذه شهادة من رجل يلامس معاناة السقوط الأخلاقي والمدني والاجتماعي في أمريكا، ولعله أدرك أفضل مما أدرك الكثير منا أن المرأة السعودية رغم كل شيء تقوم بدور رائد في الحياة، وأنها تتمتع بميزات لا تتمتع بها نظيرتها الغربية التي تحولت في معظم المواقف إلى سلعة، وأنها تستغل ما دامت جميلة، وإذا ذهب رونق الجمال انصرف عنها الجميع، وواجهت الحياة بمفردها، ومن أهم الميزات التي تتمتع بها المرأة السعودية أنها تعيش في جو من الأمن والاستقرار، فهي مصانة الكرامة والعرض، بعيدة عن التحرش والاستغلال، وتجد أياد كثيرة تمد لها يد المساعدة في الأزمات مثل المرض، أو فقد عزيز عليها، وكلما كبرت زادت قيمتها من الأبناء والأحفاد ردا للجميل الذي قدمته طوال سنين عديدة، ويستثنى من ذلك النساء الذين بلاهن الله بالعيش مع رجال لا يخافون الله، ويعيشون أسرى لأهوائهم وشهواتهم، ولا يقدرون العشرة، وفي تصوري أن هؤلاء يمثلون القلة والشذوذ في مجتمعنا، هذه الشهادة التي قدمها (نيلر) عن المجتمع السعودي تم استقبالها بوجهتي نظر مختلفتين، الأولى تدرك أن صاحب تلك الشهادة لم يقلها إلا عن قناعة بها، وهذا الاتجاه مثله أ.د. عثمان العامر في مقالته التي نشرت على صفحات صحيفة الجزيرة في يوم الاثنين 21-5-1429هـ والذي استقبل فيه الشهادة بإيجابية وربطها بالحياة الاجتماعية السعودية ومما قال في مقالته (والجيد أن هذا الكاتب وبكل وضوح يرجع سقوط الولايات المتحدة الأمريكية الأخلاقي والمدني والاجتماعي إلى عدم احترام الخط الحيوي بين الرجل والمرأة، ومع أن هذا الاعتراف كما يعرف البعض ليس بجديد في الفكر الاستشراقي إلا أن صدوره من أمثال هؤلاء المفكرين المعاصرين وفي هذا الوقت بالذات تذكير لنا نحن بأهمية البقاء على ما نحن عليه والمحافظة على قيمنا ومسلماتنا وتقاليدنا وعاداتنا.. فنحن في نعمة قد لا يشعر بها البعض منا أو لا يقدرها قدرها رجالا كنا أو نساء.. ومتى زالت أو تغيرت لأي ظرف من الظروف عرفنا قيمتها وتحسرنا على زوالها، ولو تأمل الواحد منا حال عالمنا العربي القريب وقرأ بإنصاف تجربة المساواة المزعومة وتوابعها لعرف الحق من الباطل والصحيح من السقيم إن كان صادقا في وطنيته حريصا على مجتمعه ويحب له الخير و(العاقل - كما قيل - من اتعظ بغيره)، والشواهد العالمية على وجوب احترام هذا الخط الفاصل عديدة ومعروفة عند الكثير.. ذلك أن الحياة لا تقوم ولا تستقيم إلا بهذا التباين في الخلق والتنوع في الدور.. وتوزيع الأعمال وتنسيق الأدوار وفق التخصصات والمؤهلات والقدرات - يعد في علم الإدارة - من أكبر وسائل النجاح والتقدم، وأنجعها - على الإطلاق - ما كان متوافقا مع الفطرة، متسقا مع الخلقة، منسجما مع التهيئة النفسية، ومن ثم فمساواة المرأة بالرجل، أو الرجل بالمرأة هدم للأنوثة، وإفساد للرجولة، وقطع لصلاة المودة والرحمة، وتضييع لدور الأمومة والقوامة، فالمرأة لا يمكن أن تكون رجلا لتقوم بدوره الذي هيأه الله له، ولا الرجل يمكن أن يكون امرأة ليقوم بدورها الذي هيأها الله إليه، ومن هنا حرص الإسلام أن يحافظ كل واحد منهما على خصائصه ومنع مجرد تشبه أحدهما بالآخر حتى ولو كان تشبها في أمر بسيط ومستهجن، كما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال).. ذلك لأن الإسلام يريد أن تبقى الرجولة حية في نفوس الرجال ليقوموا بدورهم، وتبقى الأنوثة حية في نفوس النساء ليقمن بدورهن.. إن جهل كثير من أمم الأرض لما بين الرجل والمرأة من تباين واختلاف جعلهم يضطربون في نظرتهم لإرساء مبادئ العدل بينهما، ومن هذا الباب ظل دعاة التحرير والمساواة فكانت النتيجة مصادرتهم حقوق المرأة باسم المساواة، وإيقاعهم عليهم عبئا ماديا ومعنويا دون أن يتحملوا من مسؤولياتها شيئا، حتى أصبحت المرأة في ظل النظام المادي الرأسمالي لا تأكل إن لم تعمل، ولا تأمن إن لم تتول حماية نفسها بصورة كاملة، فقدت المرأة أنوثتها، وانتهك عرضها في الطرقات، وضيعت كرامتها باسم المساواة..)، وهذا الكلام بين وواضح ولا يحتاج إلى تعليق، أو مزيد التوضيح، ومن جهة أخرى كان هناك وجهة نظر مناقضة، أخرجت كلام (نيلر) عن سياقه، ونظرت إليه بشك وريبة، وأنه بهذه الشهادة يدعو إلى بقائنا متخلفين، وكأنه يقول بطريق غير مباشر أن تقدم أمريكا سببه تغير دور المرأة وتحطيم الأسرة، يقول عبدالله بخيت في مقاله الذين نشر في العدد نفسه الذي نشر فيه مقال العامر وحاول فيه خلط الأوراق، وإدخال شعبان في رمضان كما يقولون، ومما قاله (قرأت الحوار القصير الذي أجرته معه جريدة الحياة. يرى مشكورا أن السعوديين هم آخر الرجال وقوفا على الأرض. لم تهزمهم نساؤهم يطالب السعوديين رفض الأصوات المطالبة بإعطاء المرأة حقوقها. محذرا من مغبة ما حصل في الولايات المتحدة عندما سمحت للمرأة بالتصويت والمشاركة السياسية. يحذر في حواره مع الحياة السعوديين من انهيار الاقتصاد الذي (لم ينهر) ولكنه كاد أن ينهار حين أخذت المرأة الأمريكية حقوقها ويحذر من انهيار القيم التي (لم تنهر) ولكنها كادت أن تنهار ويحذر من كثرة الطلاق ومن كثرة الإجهاض في المجتمع الأمريكي. فكل شيء سيئ كاد أن يحصل في المجتمع الأمريكي (وهو لم يحصل) يعيده إلى السنة التي نالت فيها المرأة الأمريكية حقوقها. فلو لم تأخذ المرأة الأمريكية حقوقها السياسية لما تردى الاقتصاد الأمريكي الذي أصبح ينافس اقتصاد زمبابوي ولو لم تحصل المرأة حقوقها السياسية لم أصبحت أمريكا دولة متهالكة. فأمريكا أصبحت بهذا المستوى الهزيل بسبب تهور الحقوقيين ودعاة حقوق الإنسان الذين انتزعوا للمرأة حقوقها السياسية. من باب المحبة يقدم لنا النصيحة الخالصة أن نبقى على المرأة بعيدة عن حقوقها حتى لا يحصل لنا ما حصل لأمريكا. حتى لا نتردى ويصبح لدينا آلاف الجامعات وآلاف الشركات التي تسيطر على العالم وآلاف العلماء والمفكرين وأن لا نبتلى بوكالة مثل وكالة ناسا وألا يأتي اليوم الأسود الذي يمثل فيه اقتصادنا 40% من اقتصاد العالم والعياذ بالله. ينصحنا أن نبعد نساءنا عن حقوقهن حتى لا تنزل علينا الطوام التي يعاني منها الشعب الأمريكي البائس الذي ضاع وتفسخ وانهار بعد أن أعطى المرأة حقوقها حتى أصبح في النهاية ملطشة للأمم.
علينا أن نربي بناتنا وعائلاتنا كما ربى هو عائلته والنتيجة كما يقول: لسوء الحظ زوجتي وأسرتي رفضوني ولم يعد لي أن أدعي انتمائي إلى الديانة المسيحية التقليدية.. كما أن عائلتي تخلت عن الثوابت التي نشأت عليها، التي كانت في غاية الأهمية لنا وانتقلت إلى العالم الآخر المليء بالمتعة. الله يعيننا وإياه). ونيلر لم يتعرض أو يقصد التعرض إلى تلك الموضوعات، ولكنه ركز على تسليع المرأة، واستغلال أنوثتها، وانهيار القيم، وكثرة الجريمة، وكل ذلك سببه انهيار الأسرة، واختلاط الأدوار بين الرجل والمرأة، إن اليابان تنافس أمريكا في مجالات عديدة، ولكن الأسرة اليابانية لا زالت تقوم بدورها خير قيام، ويجب ألا يفهم من كلامي أن المرأة عندنا تعيش في فردوس أعلى، إن الكثير من أوضاعنا يجب أن يصحح ولكن في إطار من ثقافتنا وقيمنا ونموذجنا التاريخي الذي أنشأه سيد الخلق وخلفاؤه في المدينة المنورة. إن السعادة أمر معنوي، فقد تجدها عند بدوي يعيش في الصحراء، بينما يفتقدها شخص يعيش في ناطحة سحاب في نيويورك أو لندن.
(*) أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.
فاكس: 012283689 - zahrani111@yahoo.com