في هذا العام تحتفل المملكة المغربية، حكومة وشعباً، بمناسبة مرور ألف ومئتي سنة على إنشاء مدينة فاس ذات العبق التاريخي العلمي والتراث الأصيل. تلك المدينة التي أنشأها إدريس الثاني عام 193هـ - 808م، واتخذها عاصمة لحكمه، ..... |
..... وهي الآن ثالثة المدن المغربية بعد الدار البيضاء والرباط من حيث عدد السكان؛ إذ يبلغ سكانها قرابة نصف مليون، وفيها من التراث المعماري الأصيل جامع القرويين، الذي هو بمثابة جامعة، وقد أنشئ عام 245هـ - 859م، أي أنه - كجامعة - أقدم جامعة إسلامية. |
ومن الواضح أن الجهات المغربية المعنية في ذلك القطر الكريم من الوطن العربي قد اهتمت اهتماماً بالغاً بمدينة فاس؛ وذلك لما لها من مكانة رفيعة لدى أهل المغرب؛ لما تمثله من تراث عريق، ولما هي عليه الآن من حاضر علمي مزدهر. ومن مظاهر ذلك الاهتمام البالغ واللائق تحسين شوارعها وتطويرها، وبخاصة في السنوات الأخيرة. أما وقد حلّت الذكرى لبلوغها ألفاً ومئتي سنة هذا العام فقد ازَّينت، وربت، واستنبتت جنباتها من كل زهر بهيج، كما ازدانت بمصابيح الأنوار والثريات، واستكملت زينتها بنوافير المياه الراقصة البديعة؛ فأصبح كل ما فيها بهجة ومتعة للناظرين. |
على أن تلك المظاهر الاحتفالية البهيجة الممتعة ذات الجانب الحسي المادي زادها جمالاً ورونقاً مظاهر أخرى؛ ذلك أنها شفعت بإقامة نشاط ثقافي وفكري. وكان من وجوه هذا النشاط إقامة ندوة أكاديمية دولية بعنوان (المذهب المالكي في المغرب.. من الموطأ إلى المدوّنة) ومدتها ثلاثة أيام، ابتداء من الثامن عشر من ربيع الأول - السادس والعشرين من مارس الماضي. وقد نظمها كل من المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات بفاس، برئاسة الدكتور عبدالله العلوي، والمؤسسة العلمية الكتانية بالرباط، برئاسة الدكتور حمزة الكتاني. |
وكان من حُسن حظي ومن سعادتي أن دُعيت إلى المشاركة في تلك الندوة، وأني لبيت الدعوة شاكراً ومقدراً. وقد سافرت من الرياض إلى الدار البيضاء، وكان من لطف أخي الكريم عبدالعزيز الخنيزان المستشار الثقافي السعودي في المغرب أن جعل في المطار من استقبلني وحملني براً إلى فاس. |
ومن المعلوم لدى الكثيرين أن كتاب الموطأ من تأليف الإمام الجليل مالك بن أنس المتوفى سنة 179هـ - 795م. وقد ظل ذلك الإمام - كما يروى - أربعين عاماً وهو يحرّره. والأحاديث الموردة فيه مصنّفة وفق موضوعات الفقه المبوّبة. أما المدوّنة فأصلها من عمل الإمام مالك، لكن من صنّفها وأخرجها على ما أصبحت عليه هو عبدالسلام التنوخي، الذي غلب على تسميته لقب سحنون. وقد توفي سنة 240هـ - 854م. |
ومع أن عنوان الندوة يوحي بأن مجال الدراسة محدود نسبياً فإن عدداً من الدراسات الجيدة التي قُدّمت امتدت لتشمل أموراً متعددة، مثل إيضاح دور اعتناق المغاربة للمذهب المالكي في توحيد بلادهم، والعناية بنشر كتب هذا المذهب في الوقت الحاضر. وكان من بين الدراسات المتميزة دراستان إحداهما قدمتها الدكتورة المتخصصة في علم الاقتصاد زينب العدوي رئيس المجلس الجهوي للحسابات في الرباط بعنوان (قواعد وضوابط الإيرادات في المذهب المالكي: الزكاة نموذجاً)، وثانية الدراستين قدمتها الدكتورة الحقوقية رجاء المكاوي الأستاذة في كلية الحقوق بالرباط بعنوان (من الموطأ إلى مدوّنة قانون الأسرة)، وكلتا الباحثتين سبق أن قدمت درساً أمام الملك المغربي ضمن الدرس الديني الحسيني. |
وكان عنوان الدرس الذي قدّمته الدكتورة زينب (حماية المال العام في الإسلام). على أن الندوة التي عُقدت في فاس عن المذهب المالكي لم تخل من تنوع؛ ذلك أن منظميها رأوا أن (تبهّر) بقراءات شعرية، فتم ما رأوه على أحسن حال. وكنت ممن أُتيحت لهم فرصة لقراءة شيء مما كتبوه. وفي آخر ليلة من ليالي الندوة، وفي جو عشاء حميمي اللقاء، ألقى عدد من الحاضرين والحاضرات شعراً معظمه - كما كان متوقعاً - وجداني. وتبين أن تلك الباحثة في الاقتصاد الدكتورة زينب العدوي لم تكن باحثة متميزة فحسب، وإنما كانت أيضاً شاعرة متألقة، عذوبة سبك وحسن إلقاء. |
وكان من حسن حظي أن تلك الندوة التي أُقيمت في مدينة فاس الجميلة المحتفل بمرور ألف ومئتي سنة على إنشائها قد انتهت قبل يومين فقط من ابتداء المنتدى العلمي، الذي أقامته مؤسسة الفكر العربي عن (التعليم في الوطن العربي). وقد تم ذلك المنتدى العلمي في قصر المؤتمرات بالصخيرات غير البعيدة عن مدينة الرباط، ونوقشت في جلساته المكثفة مختلف قضايا التعليم، واقعاً مشاهداً وتطويراً مؤملاً. وكان السكن في فندق قصر لمفتريت |
L'mphitrite palace، وهو فندق جميل جداً، |
موقعاً وخدمة. لكن مشكلته الكبيرة - وإن كانت حلوة - أن ساكنه سيزيد وزنه، وذلك أن شهيته لن يحد انفتاحها حد من جراء لذة ما يقدم من جهة، ولطف من يقدمه من الشباب والصبايا من جهة أخرى. |
وهكذا اجتمعت الفائدة المجتناة من الدراسات المقدمة في الندوة والنقاشات الدائرة حولها، سواء داخل قاعة المنتدى أو خارجها، مع التمتع بوجود الثلاثة المشهورة الجالبة للسرور، ومع تدفق حميمية الأخوة الرائعة، فتحققت سعادة وأي سعادة. وكم كان من بيننا من طاب له أن يردد ما صاغه الشاعر أحمد رامي مترجماً ما قاله عمر الخيام: |
واغنم من الحاضر لذّاته |
فليس في طبع الليالي الأمان |
وكان مما برهن على ذلك الطبع غير المأمون ما حدث لحبيب الجميع، المتصف بالخلق النبيل، المرتدي ثوب الشهامة في كل وقت وآن، المتحمل بأريحية لا تضاهى مسؤولية ما يلزم رفاقه، حلاً وترحالاً، أبي أيمن الشاعر اللواء عبدالقادر كمال. ربما كانت أجنحة السعادة هي التي أقلّته إلى جو أنساه توازنه الجسدي، فزلّت به قدمه، وسقط على الأرض، واضطر إلى وضع جبيرة على ركبته. وما دافع الله كان أعظم. وكان وقع ذلك على أحبته ورفاقه شديداً. على أن مشيه على عكازه لم يستطع أن يخفي شيئاً مما اعتاد أن يغمر به أولئك الأحبة والرفاق من الإيناس والمودة. |
|