في هذا الوقت الذي تستعيد فيه الأوساط السياسية والإعلامية في العالم العربي الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية، وتسترجع تفاصيل احتلال عنصري متوحش أدخل المنطقة في سلسلة متصلة من الكوارث والنكبات التي تكابدها إلى اليوم، نجد أن روح المقاومة والتحدي لشعوب المنطقة لم تنحصر بالعمل العسكري طوال السنين الماضية لكن أيضا كان هناك كم وافر من المنتج الفكري والثقافي الموازي والرافد، لكن المأزق الذي كان يحدق بهذا المنتج ويضعفه هو كونه مثقلا بالحمولة الأيدلوجية، أو الحماسة العاطفية الخطابية، والحقائق بين صفحاته سرعان ما تغيب وتختفي خلف ارتفاع النبرة العاطفية.
الأمر الذي يجعل المتلقي في النهاية يعزف عنه، وإن كانت قد نفست عن جيشانه العاطفي في البداية.
وهو الأمر الذي لم يتورط به د. سعد البازعي في كتابه (المكون اليهودي في الحضارة الغربية) الصادر العام الماضي عن المركز الثقافي العربي، فالكتاب يحمل مادة علمية عميقة وثرية، وعمل أكاديمي يحيلنا إلى ثقافة شمولية قادرة على تجسير الكثير من مواطن الغموض بين ثقافتين، ومقاربة للعديد من الأسئلة الغامضة والمعميات التي تصادفنا أثناء حيرتنا أمام تفسير علاقة دولة إسرائيل بمواطن صناعة القرار في الغرب.
ومن خلال الكتاب نستطيع أن نجمع أحجار الأحجية ونرمم الأجزاء الغامضة بصورة علمية موثقة ومرجعية غنية متعددة المصادر.
الكتاب يتعرض في بدايته إلى الحضور اليهودي في المشهد التاريخي، منذ أعمق نقطة في التاريخ، ومن ثم حالة التيه والشتات التي انخرطوا فيها وجميع الآليات التي وظفوها للحفاظ على هويتهم كأقلية صغيرة، خشية الذوبان في الأكثرية التي كانوا يعيشون ويستوطنون بينها.
وقد تطرق الكتاب إلى أبرز الأسماء التي أسهمت في تكوين الفكر الغربي، من فلاسفة وأدباء ونقاد، من أمثال اسبينوزا العظيم، وهاينه، ومندلسون، وماركس، وإيريك فروم، وفرويد، والعديد من الأسماء التي تركت بصمات واضحة على الثقافة الغربية ومن ثم ثقافات العالم.
أما العمليات الثلاث التي كانت تنتظم الكتاب فهي (التأريخ والتحليل والتقويم) بالشكل الذي جعل الكتاب ينجو من فخ العاطفية أو الأدلجة، أو أن يتحول إلى منشور سياسي محمل بالنبرة الهجومية، فقد أجمل المؤلف فكرته في خاتمة الكتاب (بأن المكون اليهودي في الثقافة الغربية كان يعمل من خلال خروج الأقلوي على الأكثرية، أو خروج الأقلية وسعيها لهدم التيار السائد أو إضعافه من حيث هو يشكل تهديدا لها - ومن هنا جاء مفهوم التقويض مناسباً وبليغاً للتعبير عن علاقة اليهود بالمتن الحضاري الغربي).
بين صفحات الكتاب متعة فكرية هائلة، سواء من ناحية ثراء المحتوى واتساعه، أو الحرفية الأكاديمية التي كتب بها بشكل يحمي الحقائق من التأثر بالمناخ الثقافي الذي انطلق منه وعبر عنه المؤلف.
وعلى الرغم من نخبوية الكتاب والمادة العلمية المكثفة بين جنباته إلا أن هذا لا يمنع استمتاع القارئ بكل صفحة في الكتاب تشرع له نافذة واسعة ليس فقط على المكون اليهودي في الثقافة الغربية ولكن أيضا الخلفية التاريخية لكثير من الفلسفات الغربية.
الكتاب قيمة فكرية مميزة أضيفت للمكتبة العربية، نتجاوز بها على المستوى المحلي المرحلة التي كنا نتوسل بها المترجمات اللبنانية والمغاربية في الاطلاع على الثقافات العالمية، ونبدأ في تجسير المسافات عبر مؤلف محلي ثقيل رصين على المستوى الفكري والثقافي.