Al Jazirah NewsPaper Sunday  25/05/2008 G Issue 13023
الأحد 20 جمادى الأول 1429   العدد  13023

مدينة (الوَرْد).. و(العَطش)..؟!!
حمَّاد بن حامد السالمي

 

كانت الطائف - المدينة - تعتمد في (الوِرْد)، قبل أن تعرف (الوَرْد)، على نبوع العيون الفياضة، ومياه السدود الغيّاضة. اشتهرت الطائف إلى جانب هوائها العليل، وعنبها ورمانها وعسلها وتينها ووردها، بكثرة العيون العذبة، التي ظل الناس يشربون منها، ويسقون حدائق الفاكهة، وبساتين الحبوب والخضار، حتى عدّ بعض المؤرخين قرابة العشرين عيناً على وادي وج وحده.

هذا الوادي الذي وهب لنا مدينة جميلة هي الطائف، فقد قامت على جوانبه المعروشة بالأعناب، بعد أن حفر (ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن العدناني) جد ثقيف، أول عين أو بئر على هذا الوادي العظيم بيده وبالصخرة الجلمدة وهو يرجز ويقول:

فأرميها بجلمود

وترميني بجلمود

فأحييها وتحييني

وكل هالك مودي

* ظل كثير من هذه العيون على هذا الوادي وعلى أودية كثيرة تصب فيه، إلى بداية التسعينيات الهجرية من القرن الفارط. كانت بساتين المثناة وقروى والعقيق والجال وغيرها تُسقى منها، عبر جداول وقناطر كثيرة، ومن أشهر هذه العيون على سبيل المثال: عين المثناة، وعين الجال، وعين العقرب، وكذلك عيون: الفيصلية وقروى والوهط والوهيط والسلامة وشويحط وشقرى والحطّابة، إلا أن عدد السكان تضاعف عشرات المرات، وعلب الإسمنت والحديد التي تزداد كل يوم، راحت تزحف على الحقول الخَضِرة، والبساتين النَّضِرة، حتى اكتسحت في طريقها، كل أخضر ويابس، فبرزت مشكلة لم تعرفها الطائف من قبل، هي ضريبة للنمو العمراني الكبير فيها، وتمثلت في نقص مياه الشرب، فأصبح المتاح منها لا يكفي حاجة سكان المدينة، عوضاً عن حاجة عشرات آلاف السياح والمصطافين صائفة كل عام، فاضطرت الدولة آنذاك إلى تحويل مياه العيون من المزارع إلى خزانات سقيا سكان المدينة.

* مياه العيون.. تناقصت بسرعة أمام تزايد السكان، فقد أصبحت الطائف مع بداية عام 1396هـ، وجهاً لوجه مع العطش الذي اكتوى به سكان الطائف والمصطافون، فاتجهت أنظار الدولة إلى جلب مياه شرب من آبار حفرت في السديرة على بعد ستين كيلاً شرقاً، إلا أن مخزون هذه الآبار استنزف بسرعة، وطلّ العطش بوجهه المخيف مرة أخرى، فلجأ المسئولون إلى حفر آبار على وادي تربة البعيد، وتم إيصال الماء عبر قنوات مدفونة إلى الطائف والهدا، لكن الفرحة لم تدم طويلاً، فمع أن المشروع استهلك قرابة نصف مليار ريال، فقد حل العطش مرة أخرى بداية صيف عام 1400هـ، يومها ناقشْت هذه القضية صحافياً مع كبار المسئولين في وزارة الزراعة، فقيل لي وقتها بالحرف الواحد: (إن وادي تربة ليس بحراً ..!)، فكتبت مطالباً الطائف المصابة بداء العطش، أن تستخلف الله في هذا المشروع غير المجدي، وأن تدير ظهرها لتربة، وأن (تشرب من البحر ..!) - وهذه عبارة تقال عادة للتحدي والتزري من الخصم - لكن المسئولين عن مشروع تربة، لم يتركوني وقتها، فشكوني إلى جلالة الملك (خالد بن عبدالعزيز) رحمه الله رحمة واسعة، فحُقِّق معي، واتهمت من قبلهم بأني أقلل من مشروع كلف خزينة الدولة مئات الملايين .

* ما هي إلا سنوات ثلاث، اتسمت بتعطيش الطائف على حساب وادي تربة، الذي نضب ماؤه بسبب الضخ الجائر لمدينة متسارعة النمو، حتى أخذت الطائف تعطي ظهرها بشكل فعلي لوادي تربة ومياه عيون المثناة، وأصبح وِرْدها المورود هو محطة الشعيبة، فقد شاطرت العاصمة المقدسة وجدة في مياه التحلية، وأصبح لها حظ معلوم من هذا الماء المكرر، يأتيها في قنوات من البحر الأحمر عبر نفق تحت الهدا وجبل كرا.

* هل ارتوت الطائف من ماء البحر، وودعت العطش الذي لازمها طيلة أربعة عقود مضت ..؟

* الواقع أن الطائف لكي تروي عطشها، وتهرب من كابوس نقص المياه الملازم لها صيفاً وشتاءً، فهي عادة ترتمي في أحضان وِرْد آخر لا ينضب من الألقاب التي ورثتها عبر تاريخها المجيد. الكلمات المعسولة، تنوب عن المياه العذبة في بعض الأحيان، فهي مصيف المملكة الأول، وهي مدينة السلام، وهي مدينة المؤتمرات، وهي عروس المصايف، وعروس البر، وهي مدينة الزهور، ولكن لم يقل أحد إنها مدينة العطش أيضاً ..؟!

* هذا العام بالتحديد، تتفاقم المشكلة مع العطش، مياه الشبكة تزور بعض الدور على استحياء، وفي أوقات متباعدة، وكأنها تأخذ بحكمة عربية جليلة تقول : (زر غباً تزدد حباً ..!)، وفناطيس المياه العملاقة، تتحلق حول الأشياب في أكثر من مورد، وأرقام الانتظار تعد بالآلاف. الأكثر من هذا - وهو أمر ربما لم يقدره المسئولون في وزارة المياه ومصلحة المياه حق قدره - أن آبار معظم الأودية حول الطائف جفت تماماً، فهي التي كانت على مر السنين، تروي الناس، وتسقي زروعهم وضروعهم، تحولت اليوم، إلى ما يشبه المَنَادِي، والحال.. أن أكثر من ثلاث محافظات خلف الطائف، وثلاثين مركزاً وألفي قرية حضرية، ومثلها من هجر البوادي، لم يعد لها من مناهل عذبة، سوى أشياب التحلية بالطائف. إن قرابة مليون ونصف المليون إنسان هذا اليوم، وقبل وصول المصطافين، يشربون من حصة بخيسة تخصصها وزارة الزراعة ومصلحة المياه للطائف وما حولها، ومع هذا كله، فالطائف هي المدينة التي تقدم على مدار العام، تضحيات عظيمة على حساب حاجتها لمياه الشرب. الطائف تضحي طيلة شهري شعبان ورمضان؛ لأن جزءاً من حصتها يوجه لحاجة المعتمرين في مكة، وتضحي طيلة شهري ذي القعدة والحجة، لدعم حصة الحجاج في مكة والمشاعر المقدسة، ثم تضحي بقية شهور السنة؛ لأنها مشغولة بوعود معسولة، تصدر بشكل مبرمج من المسئولين في وزارة المياه ومصلحة المياه، وتظل تنتظر أن يتفهم المسئولون في هذه الوزارة وفروعها، الحالة التي آلت إليها الطائف في سنواتها العشر الأخيرة، نتيجة الهجرة إليها من القرى والبوادي، ونتيجة الجفاف الذي ضرب قراها وأوديتها، فجفت الآبار، ويبست الأشجار، وأصبح الوَرْد الذي اشتهرت به الطائف طيلة ثلاثة قرون، عبئاً على أهله من المزارعين، حتى أنهم من حبهم فيه وفي زهره وعطره، راحوا يسقونه من مياه شربهم، الذي يشترونه بأثمان باهظة.

* هذه الطائف الجميلة، مصيف المملكة الأول، حاصرها العطش من جهاتها الأربع، فاتجهت ذات يوم، لتشرب من البحر، لكن مياه البحر كلها، لم تروِ عطشها الملازم لها منذ أربعة عقود.

* متى تتخلص محافظة الطائف من داء العطش ..؟

assahm@maktoob.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5350 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد