كان لا بد للأزمة اللبنانية أن تتجه إلى شفير الهاوية لتنفرج. ففي السياسة التصعيد قد يكون إحدى إرهاصات الحل والخروج من المآزق، وهذا على ما يبدو ما حدث في لبنان.
والسياسية في لبنان لا يمكن فصلها بحال عمّا يجري في المنطقة. لبنان - كما يقول اللبنانيون - ساحة صراع للآخرين. لذلك فلا يمكن أن نعزل ما توصل إليه المجتمعون في الدوحة عن التجاذبات السياسية بين دول المنطقة. ويبدو أن توافقاً ما حصل بين دول المنطقة فانعكس على اجتماع الدوحة انعكاساً إيجابياً. واتفاق الدوحة هو حل على الطريقة اللبنانية التقليدية التي لم يخرج فيها فريق مهزوماً بالكامل.
وإذا كان حزب الله قد كسب عسكرياً على الأرض، فإن هذا المكسب سيجعل سلاحه محل بحث على طاولة أي حوار سياسي؛ وبحث سلاح المقاومة كان في خانة (الممنوعات) قبل الأزمة الأخيرة. وهذا بالمنطق السياسي، ولمن يعرف طريق وأساليب الحوار اللبناني، نقطة ضعف سيعاني حزب الله منها كثيراً.
النقطة الثانية - وهي الأهم - أن سلاح حزب الله الذي ارتد على اللبنانيين في الأحداث الأخيرة أحرج حليف الشيعة الجنرال عون، الذي خرج من الأزمة بأكبر قدر من الخسائر، فقد فاته الكرسي الرئاسي الأول الذي كان يراهن عليه، وخسر قدراً كبيراً من دعم الشارع المسيحي بعد أن حالف الفريق الذي وجّه السلاح إلى من خالفه سياسياً، وما يخشاه المسيحيون أن يرتد هذا السلاح يوماً ما عليهم مثلما ارتد على الطائفة السنية والدروز في بيروت والجبل، وهذا ما أضعف موقف الجنرال كثيراً، الأمر الذي سينعكس بشكل سلبي على شعبية التيار العوني في الانتخابات القادمة.
وعلى الرغم من أن كثيرين يعتقدون أن شيعة لبنان هم أرجح كفة في حصاد المكاسب التي خرج بها اتفاق الدوحة، إلا أنني أرى أن المستقبل كفيل بإثبات خلاف ذلك. الورقة العسكرية التي هي الورقة الأهم لدى حزب الله لا قيمة لها في أجواء النظام العالمي الجديد مثل قيمة العلاقات السياسية مع الدول صانعة القرار في العالم. أمل والحزب لا يملكان على مستوى العلاقات الخارجية ما تملكه قوى الأكثرية، فعلاقاتهما السياسية حصراً مع سوريا وإيران. سوريا أعلنت عن تحضيرات للتباحث حول السلام مع إسرائيل من خلال تركيا؛ ويبدو أن العزلة السياسية التي يعيش فيها السوريون قد اضطرتهم إلى التوجه نحو الأتراك لإخراجهم من عزلتهم. ومثل هذه المباحثات ستنعكس سلباً على العلاقات السورية الإيرانية. وكلما تباعدت سوريا وإيران، وقربت سوريا من السلام مع إسرائيل، فإن ذلك بالضرورة سيصب في إضعاف حزب الله الطرف الأقوى في معادلة المعارضة في لبنان. وكل المؤشرات تقول إن الخيار الوحيد أمام سوريا هو السلام، والسلام يعني أن نزع (سلاح حزب الله) سيكون شرطاً لا يمكن التنازل عنه ليس بالنسبة لإسرائيل فحسب، وإنما للمجتمع العربي والدولي، وكذلك الطوائف في لبنان ما عدى الشيعة، ولا أجد ما يمنع سوريا من تمريره في النهاية.
اتفاق الدوحة لم يكن مجرد اتفاق سياسي بين اللبنانيين، وإنما يحمل على المستوى الإقليمي توافقاً إقليمياً ستظهر ملامحه في المستقبل القريب.