في مطلع السبعينات من القرن الماضي، انحاز أحد الزعماء العرب إلى نوازعه القومية، في مجابهة المشروع النووي الصهيوني الإسرائيلي، وأخذته فورة الحماس، إلى التفكير في استيراد القنبلة النووية، طالما أن العرب غير قادرين على إنتاجها، بينما أموالهم قادرة على شرائها، والحقيقة أن هذا الفكر..
.. يترجم واقع العرب، منذ السبعينات الماضية وحتى الآن. والآن تشهد معظم بلدان العرب (ربيعاً نووياً) أكثر من بلد عربي أكمل بروتوكولات توقيع إنشاء مفاعلات نووية مع الدول الحاضنة لهذه التكنولوچيا. من كان يفكر في شراء القنبلة النووية، يفكر الآن في استيراد التكنولوچيا النووية، ولكن لأغراض سلمية أي لإنتاج الطاقة.
وللأسف، فإن معظم البلاد العربية، وبالرغم من وضعها الافتراضي زمنياً، في تاريخية زمن العلم، إلا أنها ظلت وحتى الآن مشاهداً ومستورداً لمنتجات التكنولوچيا، ولم تؤسس حتى الآن لبيئة علمية منتجة للتكنولوچيا الفاعلة، لاتزال تستخرج ثراوتها بمنتجات تكنولوچية مستوردة، وتضيء حياتها بتكنولوچيا مستوردة، وتقيم مستشفياتها بمثلها. العقول العربية النابهة تلمع، وتنتج في بيئات علمية خارج أوطانها. واحد من هذه العقول العلمية، نال جائرة نوبل، لتحقيقه اكتشافاً علمياً مذهلاً، ولكن في بيئات علمية خارج وطنه، ولم يكن شذوذاً عن القاعدة، أن يفوز عربي آخر بالجائزة في الأدب، لأن مساحة الأدب لدى أمة العرب أكبر من مساحة العلم.
لكي تقيم البلاد العربية، على أراضيها منشآت نووية، سواء لإنتاج الطاقة السلمية، أو لإنتاج مواد حربية هجومية أو رادعة، لابد أن تكون مؤهلة علمياً وحاضنة لبيئة علمية، بكوادر وطنية، تنتج هذه التكنولوچيا، وإلا لأصبح خلاف ذلك، استعماراً جديداً ووصاية على تفردها بقرارها الوطني. لكي تضمن البلاد العربية ذلك، لابد أن تكون منشآتها العلمية ومراكز بحوثها، بمعدل يتساوى مع منشآتها في مجال إقامة (المولات) التجارية التي تتنافس في عرض المنتجات المستوردة ذوات الماركات العالمية، لا أحد يعترض على إنشاء الطرق التي نحقق فيها تميزاً، كما أن لا أحد يعترض على إنشاء مباني المستشفيات، والمباني التعليمية وحتى المنشآت الرياضية. لكن أن تتنافس العواصم العربية في إنشاء (المولات التجارية) التي تزيد عن حاجتها لذلك، فهو تكرس لهذه الإمكانات. وتوجيهها نحو الاستهلاك، وتكريساً لأن تصبح هذه العواصم أماكن لتسويق وعرض منتجات الدول الأخرى.
من أهم ما تمخضت عنه الحرب العالمية الثانية، ليس إعادة تشكيل الخرائط الجغرافية للدول، وإقامة مناطق النفوذ الدولي، وإنما اختطاف العقول العلمية تحت ستار الهجرة الطوعية، ولعل من أبرز تلك الحالات، اختطاف العقول العلمية الألمانية، ومن أشهرهم وأهمهم العالم (آنشتاين) الذي أسس لثورة علمية في المجال النووي، مما لا يعدله إلا نهب ثروات السكان الأصليين للقارة الأمريكية وإبادتهم، على هذه الأرض وبأموالهم، ثم بناء الإمبراطورية الأمريكية، بعقول بشرية علمية تم تهجيرها قسراً ثم طوعاً. لم تحمل الدول المنتصرة بعد انتهاء الحرب، الدبابة الألمانية أو البندقية أو الدبابة الإيطالية ذات السبق إنتاجاً، وإنما حملوا العقول التي صنعت التكنولوچيا لكي تنتج في بيئاتهم. معظم الدول تسطيع أن تستورد منتجات التكنولوچيا وقليلون يملكون أسرار إنتاجها.
المعادلة المطروحة هنا هي: أيهما أولى؛ إقامة منشآت نووية على أراض عربية، بخبرات وعقول غربية أو شرقية، أم إنشاء مراكز علمية للبحوث والتدريب، وإنشاء المعامل، وتعزيز المنشآت العلمية القائمة، وتخصيص ميزانيات مجزية للبحوث العلمية، وتدريب كوادر وطنية في البلدان العربية، وإرسال بعثات للتعلم والتدريب في مراكز البحوث العلمية في الخارج. هل يسمح الغرب، بأن يتعلم أبناء العرب أسرار تلك العلوم، التي يعتبرها أسراراً علمية، لا يمكن أن يطلع عليها أو يتعلمها إلا أهلها المختارون. العلم حيازة عالمية، مكفول لكافة البشر. النظريات العلمية منشورة في الكتب وفي وسائل التعلم الأخرى. لكن التطبيق ملكية فكرية، لها قوانينها ونطاق انتقالها. وهكذا أصبح ينطبق على الدواء وحتى إنتاج الغذاء، ووسائل التنمية المستدامة في إنتاج السلالات الزراعية وتهجينها وتحسين إنتاجها. ومن لديه الكوارد العلمية المدربة والمعامل المتقدمة المدعومة بوسائل الإنتاج، هو الذي يمتلك تلك الحقوق.
المعادلة الثانية المطروحة هي: هل العرب الذين يمتلكون مصادر الطاقة التقليدية التي وهبها الله لهم، البترول والغاز والطاقة الشمسية والبحار والرياح، بحاجة إلى بدائل عاجلة وملحة لهذه الطاقة المؤهلة للنضوب بعد أزمان متفاوتة - كما يقدرها علماء الغرب - بينما لايزال طلب الغرب لهذه الطاقة يتعاظم، وتتم مطالبة أصحابها بمضاعفة الإنتاج لسد حاجة الأسواق الغربية والشرقية، ولديهم وسائل الطاقة النووية.. وإذا كان إنتاج الطاقة النووية، سيحقق للعرب التقليل من الاعتماد على الطاقة التقليدية، ومد أجلها لتكون قوة بيد أصحابها، فأهلاً بالربيع النووي، أم أن المسألة أن ما يدفعه الغرب ومستهلكو طاقة العرب البترولية بيد، يجب أن يأخذوه يبد أخرى عن طريق مدهم بطاقة أخرى هي الطاقة النووية؟!
المنطق للمعادلة الثالثة هنا، يقول: إن الدول الصناعية المتقدمة التي تمتلك أسرار التكنولوچيا النووية، هي التي طورت هذه الطاقة لتصبح قوة مدمرة، وحينما تنافست هذه الدول في إنتاجها، استخدمتها كقوة رادعة في أغلب الأحوال، وأمدت حلفاءها بخبراتها في هذا المجال، وكان الكيان الصهيوني الإسرائيلي، ومنذ وقت مبكر، من أوائل الذين حازوا على هذه التكنولوچيا، ولايزال المشروع الإسرائيلي النووي سراً مغلقاً أمام كل القوانين المنظمة، لحيازة الطاقة النووية، سواء سلمية أم حربية ولم يعد التنافس في هذا المجال، محصوراً بين القوتين التقليديتين العظميين، الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي سابقاً (روسيا حالياً) وإنما اتسع ليشمل الدول المتنافسة ذات الجوار كالهند وباكستان والصين (وفريق المنبوذين) من الدول المستهدفة من الدول العظمى. مثل كوريا الشمالية وإيران، وربما دول في أمريكا الجنوبية ستعلن عن نفسها في النادي النووي. وربما تشهد السنوات المقبلة، أن تكون دول هامشية، مثل جيبوتي وجزر القمر ومالطة وجزيرة مدغشقر، محطات لمنشآت نووية.
تاريخياً تعود مشاريع العرب النووية، إلى الخمسينات من القرن الماضي، وكان المنطق التاريخي والعلمي، أن تكون مصر هي أول السابقين تاريخياً، إلى تأسيس تكنولوچيا نووية، متزامنة أو سابقة على المشروع الصهيوني النووي، ولكن استهداف مصر عسكرياً واقتصادياً، جعل محاولاتها تاريخاً وليس فعلاً واقعاً، خصوصاً مع تنامي قوة أحد القطبين العالميين (الولايات المتحدة) قياساً مع القطب الآخر (الاتحاد السوفياتي) الذي ساعد- حينما كان منافساً قوياً- في بناء السد العالي وبناء ترسانة الصواريخ، ثم دخول مصر في جولة حرب 1967، ومن ثم حرب التصحيح في أكتوبر 1973، فمنذ مصطفي مشرفة (بذور التكنولوچيا النووية) وصولاً إلى محمد المشائي (تكنولوچيا النانو) بينهما أسماء نمت وبرزت، لكن مآلها كان إلى الاغتيال، الذي كان يعني اغتيال أي مشروع تكنولوچي بعقل عربي (حالة يحيى المشد، سعيد بدير) جعل المشروع العربي النووي، حلماً لم يتحقق، وكان تدمير المفاعل النووي العراقي (أوزراك) بمخاطرة إسرائيلية عام 1981، ليس إلا إعلانا صريحا على أنه ليس من حق العرب امتلاك التكنولوچيا النووية، سلمية أو عسكرية رادعة، حتى وإن تم بناؤها بعقول أجنبية غير عربية (فرنسا المفاعل العراقي). بل إن الاشتباه في محطة للأبحاث في (دير الزور) بسوريا، كان كافياً للمبادرة بتدميرها عن طريق الإسرائيليين، وبمباركة أمريكية في الشهور القليلة الماضية. ولا يزال مشروع إيران سواء كان سلمياً أم عسكرياً، تحت النظر وعلى المحك. والحل المؤقت لكل التطلعات، - من وجهة نظر غربية - أن يتم حيازة مواقع عربية وعلى أراض عربية، لبناء مفاعلات نووية بتكنولوچيا غربية، وباتفاقات معلنة، ولها ملاحق (سرية) هذه (المحطات النووية) لا تختلف عن (محطات توليد الكهرباء) و(محطات تحلية المياه المالحة) ليس لنا منها إلا أنها على أراض عربية، ولكن بعقول غربية. إنه الشكل الجديد للاستعمار، وربما تُعطي هذه الخطوة أو الخطوات، الذريعة لإسرائيل لغض النظر عن مشروعها النووي، وإعطائه شكلاً من الشرعية. ألم يكن شاعر العرب (البحتري) حينما تغنى (بالربيع الطلق) الذي وهبه الله لهم على حق، على أمل أن يهبوا لنفسهم ربيعاً نووياً بأيديهم وليس بيد (عمر آنشتاين).
E:marspub2002@yahoo.com