رجلٌ سعوديٌّ كوَّن نفسه تكويناً مادياً ممتازاً، بذل جهوداً كبيرة منذ شبابه حتى قارب الخامسة والستين من عمره في جمع المال من خلال النشاط التجاري المنوَّع داخل المملكة وخارجها، بلغت ثروته المليارات حسب قوله، سعى في الحياة سعياً حثيثاً لا يتوقف، وَصَلَ ليله بنهاره، ورافق حقيبة سفره مرافقة خاصة سنوات عديدة تتجاوز الأربعين سنة، بنى أجمل البيوت في أكثر من مكان في العالم، وركب أغلى السيارات، فقد كان مغرماً باقتناء ما يجدُّ من السيارات الغالية ويتفنن في ذلك. |
كوَّن ثروة كبيرة، أغدق على أهله من المال ما جعله - كما كان يظن - يعوِّضهم عن انشغاله الكبير عنهم، يقول: ما كنت أعود من سفر غبت فيه أسابيع، حتى أبدأ سفراً جديداً تضطرني إليه الأعمال التجارية الموزَّعة في أكثر من دولة في العالم، وقد حدث لي أكثر من مرة أنْ عُدتُ إلى عمل تجاري مفاجئ من مطار بلدي دون الذهاب إلى المنزل، مع أنني أكون وقتها غائباً أسابيع، وأحياناً أشهُرا، وما زلت أذكر كيف صرفني العمل عن القدوم إلى المملكة، مع أنني كنت في المطار انتظر الإقلاع إليها بسبب نداءات العمل التي لا تنقطع، وقد حدث ذلك عشرات المرات، وكان التعويض لأولادي المال، وهو تعويض نفسي عن شعوري بالتقصير. |
تكاثرت الأموال، وتبدَّلت الأحوال، وتحقّقت في مجال المال والأعمال أكثر الآمال، كنت مندفعاً في هذا الطريق لا ألوي على شيء، وقد رسمت هدفاً في ذهني، وبذلت الجهد الكبير في سبيل تحقيقه ولكنني لم استطع، فقد جاوزت الستين وبيني وبين ذلك الهدف مسافات شاسعة، وكان شعوري بالإخفاق في تحقيق هذا الهدف ينغِّص عليَّ الاستمتاع بالنجاحات التجارية الكبيرة التي أحقِّقها، فهي نجاحات محدودة إذا ما قيست بهذا الهدف الكبير. |
أتدرون ما ذلك الهدف؟ هو أن أكون من بين أغنى عشرة رجال في العالم، يتداول الناس اسمي في هذه القائمة الذهبية، ولم يتحقق الهدف، فثروتي التي تقدَّر بمليارات الريالات عاجزة عن تحقيق موقع لي في الألف الأوائل مالياً في العالم. |
وجاءت لحظة الصحوة بعد الغفوة، فقد صلَّيت المغرب في الطائرة في إحدى رحلاتي التي لا تنقطع، وقرأت في الركعة الأولى سورة التكاثر التي قرأتها في صلواتي مئات المرات، ولكن قراءتها هذه المرة اختلفت كُلِّياً عن قراءاتي السابقة لها {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ما نطقتها حتى شعرت برجفة تسري في جسدي الذي أنهكتْه الأسفار، كأنني أقرؤها للوهلة الأولى في حياتي {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} هنا تحوّلت الرجفة إلى رغبة في البكاء، وقد كان البكاء الحار الذي لم يسبق لي أن بكيت مثله {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} هنا تحوَّل البكاء إلى نشيج سمعه الركاب المجاورون لي جميعهم، وكدت أفقد وعيي وأنا أردِّد: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} هنا تذكَّرت كلمة جدّتي التي قالتها لي قبل خمسة وعشرين عاماً - رحمها الله -: (يا ابني، الموت يقطع الطريق على الجميع، با ابني تذكَّر قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ، تذكَّرت ذلك الموقف حينما قبّلت رأس جدّتي، وكفَّها، وودّعتُها مسافراً وكأنني لم استمع إلى شيء مما قالت، وخرجت من عندها وهي تبكي وأنا مشغول عن بكائها بضخامة الصفقة التجارية التي كنت مسافراً من أجلها، وحينما جاءني خبر وفاتها، وأنا في ذلك البلد الأوروبي النائي، مسحت دمعتين يتيمتين تسلّلتا من عينيَّ، وقلت: الله يرحمها، وعدت بعدها إلى مشاغلي التي لا تنقطع. |
الآن أقول: ليتني استقبلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} حينما ذكَّرتني بها جدّتي كما استقبلتها الآن، كنت وفَّرت على نفسي المرهقة هذا العناء الطويل. والله إنّ جميع أموالي تتضاءل أمام قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، يا مسلِّم سلِّم. |
|
اسقني من ماء نهر الكوثر |
شربةً تغسل عني كدَري |
|