جدة - خاص ب(الجزيرة)
أكد الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي الدكتور عبدالسلام العبادي على ضرورة التصدي للأشخاص غير المؤهلين لعملية الفتوى، لأنهم الذين يتسببون في التضارب في الفتاوى.
أما عن تنوع الفتاوى فقال د. العبادي: إن هذه ظاهرة صحية ما دامت تعتمد على النظر الصحيح في الأدلة وفي أقوال العلماء.. مطالباً بالتصدي لظاهرة التخويف من الإسلام، والمزاعم الباطلة التي تحاول ربط الإسلام بالإرهاب.
وعن الخطاب الديني وتطويره، قال د. العبادي: إن هذه القضية غاية في الخطورة، حتى يحقق الخطاب الديني أهدافه، واعترف د. العبادي بوجود غير المؤهلين للفتوى في الفضائيات مما أوجدوا بلبلة ونشروا الجهل.
جاء ذلك في حوار للأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي ل(الجزيرة).. وفيما يلي نصه:
* كيف ترون وضع الفتوى الآن في ظل التضارب بين المفتين، خصوصاً مع دخول غير المؤهلين ميدان الفتوى؟ وهل نحن بحاجة إلى ضبط الفتوى، أو تقنينها كما طالب البعض؟
- المشكلة في موضوع الفتوى ليست في تعدد الفتاوى ما دامت تعتمد النظر الصحيح في الأدلة وفي أقوال العلماء، إنما المشكلة في تصدي العديد من الأشخاص غير المؤهلين لعملية الفتوى، فالأمر الأول ظاهرة صحية ويثري الموضوع المبحوث، ويعطي المجال رحباً للترجيح على ضوء قوة الدليل وتحقيق المصلحة الشرعية المعتبرة. وهذا ما يلجأ إليه المفتي العالم، أما الثاني فهذا الذي يجب أن تؤخذ الإجراءات الضرورية لمنعه أو الحد منه. وأهم وسائل الحد منه ومحاصرته هو تصدي العلماء للقضايا التي يسأل عنها بالبيان الشافي، وبخاصة من خلال المجامع ومجالس الفتوى المؤهلة، لأنها البديل عن تصدي الجهال لذلك، والأمة لديها من الفهم والوعي لكشف الجهال ورد أقوالهم وبخاصة إذا فند العلماء أقوال الجهال وبيّنوا خطأها وخطرها.
ومن هنا جاء اهتمام المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين والعديد من الدول العربية والإسلامية بهذا الأمر. وقد ورد الإشارة إلى ذلك في خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ملك المملكة العربية السعودية، حفظه الله تعالى، أمام مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد ببوتراجيا في ماليزيا سنة 2003م، وكذلك في مؤتمر القمة الإسلامي الطارئ الثالث الذي عقد في مكة المكرمة 2005م، بدعوة من خادم الحرمين الشريفين، وجاء قرار مؤتمر القمة هذا واضحاً في تبني وتأكيد ما أصدره المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عقد في عمان سنة 2005م من تنديد بالجرأة على الفتوى والتصدي لها ممن لا تتوافر فيه الشروط المطلوبة للإفتاء والاجتهاد، هذا الأمر الذي أوقع الأمة في كثير من الممارسات الخاطئة. وقد طالب البرنامج العشري لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي اعتمده مؤتمر القمة الطارئ الثالث باتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة هذا الأمر، وكان من أهم الإجراءات التي اتخذت: تفعيل دور مجمع الفقه الإسلامي الدولي وتحميله واجب التنسيق بين جهات الفتوى في العالم الإسلامي، وذلك بنص نظامه الأساسي الجديد.
* تطوير (الخطاب الديني) قضية شغلت الكثير في عصرنا الحالي.. ما رؤيتكم تجاه هذه القضية، وكيف يمكن أن يسهم مجمع الفقه الإسلامي الدولي فيها؟
- تطوير الخطاب الديني قضية في غاية الأهمية، لأن المقصود أن يحقق الخطاب الديني أهدافه في الوصول للمخاطبين وإقناعهم وتوجيههم وتمكينهم من الاستجابة لما يريده الإسلام منهم في فكرهم وسلوكهم وواقع حياتهم وحياة مجتمعهم.. والوصول لهذا يتطلب توافر المعرفة السليمة المتمكنة في الإسلام كما أنزله الله سبحانه، كما يتطلب معرفة واقع الناس وأوضاعهم وما يعانون من مشكلات، وما يقوم بينهم من قضايا وتحديات، كما يتطلب إدراكاً سليماً لوسائل الخطاب وأدواته والتي تتطور وتنمو باستمرار، واستخداماً فاعلاً ومؤثراً لها، وهذا يتطلب تحديثاً لوسائل الخطاب وطرقه وأدواته، كما يتطلب استخداماً لكل الوسائل الممكنة لفهم الإسلام وفهم الواقع.. ومن هنا يأتي طرح ما سمي بتطوير الخطاب الديني.. أو ما يعبر عنه أحياناً ب(الخطاب الإسلامي المعاصر) أو (نحو إعلام إسلامي معاصر) وكل ذلك يهدف إلى إيجاد نهضة حقيقة في مجال التعريف بالإسلام ودعوة الناس إليه تنفيذاً لقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل. وهذه الآية أمر إلهي بالسعي لتجويد الخطاب الدعوي والاستفادة من كل ما هو متاح لإثرائه.. ما دام أن ثوابت هذا الخطاب لا تمس وأن فروعه نامية على ضوء حركة المجتمعات وتطورها.
وهذا يحمل مجمع الفقه الإسلامي الدولي مسؤولية كبيرة في مواجهة القضايا الحادثة والمسائل المستجدة التي يجب أن يواكبها الخطاب الإسلامي المعاصر بحلول ناجعة مستمدة من شريعة الله سبحانه الكاملة وهذا يطرح موضوع الوعي والبصيرة التي دعت إليه آية أخرى قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
فالخطاب الإسلامي خطاب راشد ولا يكون راشداً إذا أغفل مستجدات الحياة، وما يثور في حركة المجتمعات من قضايا ومشكلات.
* هناك من يتحدث عن مفتي الفضائيات، وعدم تأهلهم، وأنهم سبب البلبلة التي تحدث، فما رؤيتكم في هذه القضية؟
- هذا السؤال يطرح قضية الفتوى في هذا العصر مرة أخرى فأمام إلحاح المسلمين وجماهير الفضائيات على معرفة أحكام دينهم فيما يعرض لهم من قضايا ومشكلات بادرت العديد من الفضائيات لتلبية هذه الحاجة بما سمي بمفتي الفضائيات، وبعض هؤلاء المفتين يتمتع بصفات العلم والمعرفة المطلوبة فقاموا بواجبهم خير قيام وعرّفوا الناس بأحكام دينهم وما يجب عليهم من ضرورة التفقه في الدين والالتزام بأحكامه، وكانوا يحيلون في بعض المسائل التي لا تتوافر لديهم المعرفة فيها إلى المختصين والمراجع والمصادر المناسبة، ولكن اتساع هذه الحاجة ووجود بعض الأهواء والأغراض المرفوضة دفع بعض الفضائيات إلى التوسع في ذلك وإتاحة الفرص لغير المؤهلين تأهيلاً كافياً للتصدي لأمور الدين والكلام فيها، فأوجد هؤلاء بلبلة، ونشروا جهلاً، لذا يجب أن يضبط هذا الأمر ويحرص على أن تكون برامج هذه الفضائيات الدينية محروسة بالعلماء المعروفين بعلمهم وفضلهم.. وهذا أمر جدير بأن توضع له الضوابط وتبين فيه القواعد والمناهج، وتعقد له الندوات والدورات، حتى لا يوقع بعض المتصدين لهذه البرامج الناس بضيق نظر أو قصور معرفة أو خدمة هوى سيئ أو غرض مرفوض.
* كثير من الأصوات المنادية إلى تجديد الفقه الإسلامي لمواجهة مستجدات العصر ومتغيراته في شتى المجالات.. فكيف ترون أهمية تحقيق ذلك؟
- هذا السؤال يثير قضية التجديد والتطوير مرة أخرى في السؤال الرابع حول تطوير وتجديد الخطاب الديني وهنا حول (تجديد وتطوير الفقه الإسلامي) وأنا مع هذا الأمر في إطار ضوابطه المقررة وفق المنهج الذي يقوم عليه الفقه نفسه.. فالفقه هو نتاج تحكيم شريعة الله سبحانه في واقع الناس وأحوالهم إذ هو (العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمد من أدلتها التفصيلية). فهذا العلم يستنبط ويستمد حكم القضايا الحادثة والواقع المستجد من نصوص الشريعة باعتبارها نصوصاً كاملة تستوعب النشاط الإنساني كله بالبيان والحكم. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة. وقد تحقق هذا الكمال سواء أكان ذلك بالنص المباشر الواضح على حكم المسألة كحكم السرقة والقتل، أو كان ذلك بالنص غير المباشر بمعنى أن الحكم يحتاج إلى استنباط واستمداد بالاستعانة بالقواعد التي تعين المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية، وذلك كما جرى في بحث المسائل الحادثة مثل: أطفال الأنابيب، وموت الدماغ، والمعاملات المصرفية الإسلامية الحديثة، وهذه القواعد يقوم ببيانها علم أصول الفقه. فهو العلم الذي يبحث في القواعد التي تعين المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها.. وثمرة ذلك هو الفقه. فالفقه عملية نامية مستمرة تواكب الحياة بنموها واستمرارها. فالفقه بطبيعته نامٍ ومتجدد، وإذا جمد الفقه ولم يواكب الحياة بحلوله تعطلت مهمته وانتهى دوره.. وواجب العلماء الفقهاء واضح في هذا المجال، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي مجمع الفقهاء، وهو آلية متقدمة لمواجهة القضايا الحادثة والمشكلات المستجدة، ليس باجتهاد فردي قد يكون قاصراً أمام تعقد المشكلات وتنوعها، إنما باجتهاد جماعي يثري المسيرة ويمكن من المواجهة الراشدة، وبالتالي تحقيق دور الفقه الإسلامي النامي عن وعي وبصيرة، وبما يصون المسيرة من الضعف والارتجال والابتسار والله سبحانه الموفق.
* جاءت التكنولوجيا الحديثة وبأشياء لم تكن موجودة، وظواهر أثارت الجدل والخلاف بين الفقهاء، وكانت رنات المحمول في البداية عادية لا حرمة فيها ولا جدال، والكثير من الناس يستخدم هذه الرنات الإسلامية، سواء أكانت لصوت آذان أو دعاء، أو قارئ يتلو آيات من القرآن الكريم.. فما رأي معاليكم في ذلك؟
- نعم فالصورة التطبيقية لا تكمل حقيقتها من أول استخدام في العديد من الأحوال، فإذا عم الأمر وظهر على حقيقته في كل أبعاده، عند ذلك يمكن بيان الحكم الشرعي بالتفصيل، نظراً لظهور الأمر ظهوراً واضحاً وشاملاً، وعندها يأتي الحكم دقيقاً ومغطياً لكل أبعاد المسألة، وهذا الذي ظهر في استخدام الهاتف المحمول وفي طبيعة استخدام الرنات الإسلامية فيه سواء أكانت هذه الرنات صوت آذان أو دعاء أو تلاوة للقرآن الكريم، فجاء الحكم اللاحق مدركاً لأبعاد هذا الاستخدام، وملاحظاً لأماكن الاستخدام المتعددة للهاتف، وكذلك لطبيعة الاستخدام من حيث إجابة الطالب بقطع الرنة. وقد يكون هذا القطع مخلاً بمعنى الرنة المستخدم فيها النص الإسلامي فجاء قول العلماء وما اعتمده قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ملاحظاً لهذا الاعتبار والذي ينص على:
(لا يجوز استخدام آيات القرآن الكريم للتنبيه والانتظار في الهواتف الجوالة وما في حكمها، وذلك لما في الاستعمال من تعريض القرآن للابتذال والامتهان بقطع التلاوة وإهمالها، ولأنه قد تتلى الآيات في مواطن لا تليق بها، وأما تسجيل القرآن الكريم في الهاتف للتلاوة منه أو الاستماع إليه فلا حرج فيه بل هو عون على نشر القرآن واستماعه وتدبره، ويحصل الثواب بالاستماع إليه، ففيه تذكير وتعليم وإذاعة له بين المسلمين). وهو قرار صائب يلاحظ طبيعة هذا الاستخدام وأبعاده.
* هل نحن بحاجة إلى التجديد في الشريعة الإسلامية؟
- في الإجابة على هذا السؤال عن مدى الحاجة إلى التجديد في الشريعة الإسلامية لا بد من التمييز بين ثوابت الشريعة والعديد من فروعها الاجتهادية وثوابت الشريعة متعددة تشمل الأحكام العقدية والأخلاقية، وكثيراً من الأحكام الفقهية المطلوبة في الشريعة، أما الأحكام الاجتهادية فإن منها ما يكون ثابتاً لبنائه على نص ثابت وفي حال غير متغير، ومنها ما يكون متجدداً لبنائه على واقع محدد وعرف معين. فهذا النوع متغير ومتجدد لطبيعته المتغيرة والمتجددة، ومن هنا قال الفقهاء قاعدتهم المشهورة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) ولم يريدوا معناها المطلق، إنما أوضحوا أن المقصود بها الأحكام التي بنيت على واقع معين وعُرف سائد في زمن معين من منطلق قواعد أخرى مثل قاعدة (العادة محكمة) وقاعدة (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً). فهذا القدر من الأحكام متجدد ومتغير، كذلك أن الصور التطبيقية للمبادئ التي جاءت بها الشريعة صور نامية مثل صور الشورى وأدواتها، وصور تحقيق العدل بتطبيق أحكام الشريعة في مجال القضاء، هل يكون القضاء على درجة واحدة ومن قاضٍ واحد أو يمكن أن يكون القضاء على درجات وفي بعض مراحله من أكثر من قاضٍ لضمان سلامة التطبيق، لذا جاء المبدأ مستوعباً لكل تطوير وإثراء تأتي به العصور.
فهناك تجديد في أحكام الشريعة لكنه في هذا الإطار وضمن هذا المنظور. وهنالك تجديد آخر مقبول وهو تجديد علاقة المسلمين بدينهم وقيامهم بأمره بأن يفهموه على حقيقته ويطبقوا أحكامه في واقع حياتهم الخاصة والعامة وفق ما تم بيانه، وهو الذي ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داوود والذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).