اطلعت على مقال الكاتبة فاطمة العتيبي المعنون ب(دلل نفسك) في عدد (الجزيرة) رقم (12991) وكان مما لفت نظري في حديثها عن تدليل النفس قولها (أن تدلل نفسك، يعني أن تتبع هواها وأن تكون كما تحب أنت لا كما يريد الآخرون.. (إكرام النفس هواها)! وتعقيبا على هذه العبارة أقول:
رجل مريض منعه الطبيب من بعض الأطعمة التي كانت (نفسه تهواها) لأنها تزيد من مرضه وتؤخر في شفائه لأنه وقع في صراع مع نفسه: النفس (تهوى) تلك الأطعمة، وصوت العقل - الذي يسعى في مصلحته وعافيته - يمنعه، فإن كان عاقلا مؤثرا السلامة فسيلبي نداء العقل (ولو خالف هواه) ليحظى بالعاقبة الحميدة التي ينسى فيها مرارة حرمان نفسه من هواها، وإن كان (صريع هواه) فسيلبي نداءه ولكن العاقبة ستكون سيئة بدءا من الآلام التي سينسى فيها ساعة اللذة بأكل الأطعمة الممنوعة، وسيحرم نفسه أكلات في الآجلة من أجل أكلة في العاجلة.
هذا مثال واحد يصور (الصراع) الذي يحدث بين أهواء النفس وبين منادي الدين والعقل (حينما تكون المخالفة لهما)، وإنما قيدت ذلك الصراع بحالة مخالفة (الهوى) للدين والعقل لأن الدين والعقل (وهما ضابطان للهوى عند العقلاء) قد لا يمنعان ما يريده الهوى في بعض الأحيان؛ وذلك لأن الهوى: هو ميل النفس إلى الشيء، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه فإنه لولا ميله نحو المطعم والمشرب وما أكل ولا شرب، ولكن لأن من يتبع الهوى (في الغالب) لا يقف عند حد المشروع بل يتجاوزه إلى الميل إلى ما حرم الله، ولأن الهوى في الغالب يورد موارد الهلكة لأجل ذلك لم يأت ذكر (الهوى) في نصوص القرآن والسنة إلا في مقام (الذم) إلا ما جاء منه (مقيدا) كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)، وقيل : إنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه.
ومما جاء في نصوص القرآن والسنة في (التحذير من اتباع الهوى) ما يلي:
1- أن الله سبحانه جعل الجنة نهاية من خالف هواه والنار نهاية من اتبع هواه، قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى }{37{ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }38 {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى 3}وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }40{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
2- إن الله سبحانه وتعالى جعل الهوى مضادا لما أنزله على رسوله وجعل اتباعه مقابلا لمتابعة رسله وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}
3- أن الله سبحانه قسم الناس قسمين: أتباع الوحي المستجيبين للرسول وأتباع الهوى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ}وفي هذه الآية دليل على أن كل من لم يستجب للرسول، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول، فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب إلى هوى.
4- أن الله سبحانه بين أن من يتبع هواه أنه من أضل الناس فقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}، قال العلامة السعدي عند تعليقه على هذه الآية واصفا متبع الهوى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} (فهذا من أضل الناس، حيث عرض عليه الهدى، والصراط المستقيم، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته، فلم يلتفت له، ولم يقبل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء، فاتبعه، وترك الهدى فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟).
5- إن الله سبحانه وتعالى شبه متبع الهوى بالكلب قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}
6- إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن اتباع الهوى من المهلكات فقال: (ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فتقوى الله عز وجل في السر والعلانية والقول بالحق في الرضا والسخط والقصد في الغنى والفقر وأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه).
7- إن الله سبحانه أخبر أن اتباع الهوى يضل عن سبيله فقال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، ثم ذكر مآل الضالين عن سبيله ومصيرهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}
7- إن الله سبحانه أخبر أن باتباع الهوى يطبع على قلب العبد فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}
9- إن الله سبحانه نهى عن طاعة متبع الهوى فقال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، وحذر سبحانه من اتباع أصحاب الأهواء في أهوائهم فقال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
10- إن الله سبحانه أخبر أن من اتبع هواه فكأنه اتخذه إلها من دون الله فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} والمعنى: (ذلك الكافر اتخذ دينه بهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه، ولا يحرم ما حرم الله).
قال الشيخ السعدي رحمه الله: (يقول تعالى (أفرأيت) الرجل الضال الذي (اتخذ إلهه هواه) فما هويه سلكه سواء كان يرضي الله أو يسخطه).
11- إن الله سبحانه نفى المساواة بين من كان على بينة من ربه وبين من اتبع هواه فقال تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}
12- إن الله سبحانه أخبر أن أصحاب الأهواء يضلون عن سبيل الله فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}
13- إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى فإن الإمام القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه والشاب المؤثر عبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى.
14- إن الله سبحانه أمر بعدم اتباع الهوى في الحكم مما يعني أن اتباع الهوى يسبب الجور في الحكم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ثم إن الشريعة التي حثت المسلم على الجد والاجتهاد في العمل الصالح تعرف أنه بحاجة إلى أوقات يروح فيها عن نفسه من عناء الحياة وكدحها ويأخذ فيها قسطا من الراحة ليكمل بعد ذلك مسيرة إلى العمل الجاد الذي يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، ولكن هذه الراحة تكون في حدود ما أباح الله (ولا يهدم فيها ما بنى في وقت جده) فيكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
بندر بن إبراهيم العريدي