تروي إحدى كوميديات السياسة العربية والتي تعود إلى أيام الضياع والنكبة عام 1948م، أنه عندما أفحم المفاوضون في الطرف الآخر أحد كبار المفاوضين العرب وهم يحملقون معه في الخريطة, كان هناك مساحة لا تزيد عن سنتمتر على الخارطة وجرى نوع من الخلاف عليها، فبادر المفاوض العربي بكرم الحاتميين إلى التنازل عن ذلك السنتمتر ليتضح فيما بعد أن تلك المساحة الزهيدة في عين مفاوضنا النجيب كانت تتعدى العشر كيلومترات على الطبيعة.
هذه المقدمة تجعلنا نتساءل: هل نحن العرب قوم نجيد فن التفاوض؟ وهل علمتنا مناطحتنا مع الإسرائيلين كل السنين الماضية شي من ذلك، وهل أنظمتنا بطبيعتها السياسية تهتم بقضية تجهيز وتثقيف الكادر المفاوض وتقوم بإعداده لقادم الأيام من خلال التدريب النفسي والتقني والشخصي، أم أن الأمر لا يتعدى كونه تفويض بالملفات الحساسة يقوم على الشخصنة والولاء السياسي أكثر مما يقوم على النجابة السياسية والحصافة الدبلوماسية والقدرات الشخصية.
عندما نحاول أن نستعرض بعض التجريدات والمفاهيم الخاصة بفن التفاوض نجد أن من أهم الاستراتيجيات والثوابت المدرجة في فلسفة التفاوض قضية الربح القائم على الإقناع، ونعني به أن التطرف في المواقف والتشبث بها لا يعني النجاح التفاوضي، بل قد نصيب قلب الحقيقة إن قلنا أنه يعتبر أسلوب فاشل وإفلاس من قبل المفاوض المتطرف، فالمفاوض النجيب هو ذاك الشخص الذي يجعل خصمه يقتنع بتشبثه بمواقفه ويلتمس له العذر في ذلك ويحاول قدر الإمكان إقناعه بوجة نظره واجتذابه إليها من دون أن تثقل كاهله الخسائر, أو الإحساس بالاهتضام في المواقف والنتائج. وغير ذلك الكثير من بديهيات وفنيات التفاوض السليم القائم على العقلانية والمهنية السليمة.
لا نجانب جادة الصواب إن قلنا أن واقع السياسية الخارجية العربية وما يتكالب عليها من قضايا شائكة فرضت عليها الأحداث المعاصرة الولوج بها، يتطلب نوعاً من الاهتمام بالكادر التفاوضي وإدراج التفاوض كفن ومنهج يتطلب تدريسة في الأقسام الأكاديمية التي لا تزال بعض الجامعات تتحاشاها، وذلك من أجل تكوين التأهيل التعليمي، حتى تقوى أطر السياسيات الخارجية العربية وتصبح عامرة بكوادر من المؤهلين للتصدي للملمات بدلاً من قذف ملفات التفاوض ومناطحة الأمم الأخرى في أحضان من لا يجيدون التعامل معها وتحمل مسؤوليات حساسيتها السياسية وأهميتها الوطنية.