اليوم نستأنفُ الحديثَ بتسليط الضوء على محور آخر لا يقلُّ أهميةً وحَرجاً، وهو محور اختيار الشاب للتَّخصص، وهنا تبرزُ للشاب حيرةٌ متعدّدةُ الأطراف:
1- كيف يوفِّقُ بين رغبته هو، على افتراض أن له إرادةً واعيةً بذلك، وبين مدخلات (العرض والطلب) التي تمارسها هذه الكلية أو تلك اعتماداً على معايير كمّية معينة، كعدد الفصول وأعضاء هيئة التدريس ونحو ذلك؟
2- كيف يُوائمُ الشابُ بين توجُّهه وبين رغبة الأهل أو مَنْ لهم سطوة التأثير على قراره؟
3- ثم، وهو الأهم، كيف يوفِّقُ بين طموحاته وبين التوقعات التي تَتوخَّى الدولة والمجتمع تحقيقها من خلال التعليم الجامعي؟
* ثم تأتي بعد ذلك مشكلة اختيار فرصة العمل بعد الفوز بوثيقة النجاح من الجامعة، ومرة أخرى، تَسْتَعِرُ في وجدان الشاب أزمةُ الاختيار: هل يتجه للعمل في القطاع الحكومي أم ينصرف عنه إلى جهة أخرى، فإذا رجَحتْ كَفَّةُ القطاع الحكومي، فأين يعمل؟ ما هو نصيبُه في العثور على عمل يتلاءم مع تخصصه وتحصيله، من جهة، ويرضي طموحاته المتنوعة، العاجل منها والآجل من جهة أخرى؟
* وهناك محورٌ ثالث ألْمحتُ إليه في الحلقة الأولى من هذا الحديث وأعيد طرحَه اليوم عبر السؤال التالي:
- (هل الشاب نفسُه مشكلةٌ حين يفتقد الوضوحَ الموضوعيَّ لقراره: قبل الجامعة وبعدها؟ وإذا كان الرد إيجاباً، فما هي، ولماذا؟).
وأتطوّعُ بالرد على هذا السؤال، فأقول: نعم.. الشابُ مشكلةٌ، وهذه هي بعض الأسباب:
1- هو مشْكلةٌ: حين لا يقْتَدي انتماؤه للجامعة بهدفٍ ولا يتكيّفُ بإرادة، ولا يُمارَس بجدّ، سِوى الرغبةِ في إنفاق فترة من الزمن بين جدران الجامعة تطولُ أو تقْصرُ يحصلُ بعدها على وثيقة ما تخْلعُ عليه لقبَ (جامعي)، وهو لا يملكُ من مواهب هذا (اللقب) شيئاً، فكراً كان أو مهنةً أو مهارةً!
2- وهو مشكلة: حين يعتبرُ الشهادةَ الجامعيةَ نهايةَ مشْوار البحث عن الحقيقة، ولذا، يصرفُ نفسه عن القراءة الجادة ويختفي الكتاب من منزله، ومن حياته، وتصبح القراءة في ذهنه فعلاً ماضياً ينتمي إلى ذكريات الجامعة، ومَن يدري ما تراه يصنع بكتب الجامعة وملازمها بعد التخرج، هل يحرقُها كما يفعل بعض الصبية الصغار أم (يُتْلفُها) بالهجر والنسيان؟
3- وهو مشكلة: حين يفَرِّطُ في تصوّره لمعادلة الحقِّ والواجب بينه وبين الوطن، فيطلبُ منه الكثير، ويعطي القليلَ، يطلب الوظيفةَ والسكن والمزايا الأخرى، فإذا جاء دور العطاء من لدنه ساومَ واعتذر، فإذا نُبِّه إلى ذلك، تظلّم أو ظَلَم!
4- وهو مشكلة: حين يزيّن لنفسه الشُّعورَ بأنه باتَ يملك مقومات العطاء، بحجّة أنه يحملُ وثيقةَ الجامعة، يريدُ أن يخْتَصِرَ بها الزمنَ ما أمكنه وصولاً إلى المنصب الكبير متَخطِّياً بذلك نواميسَ الأداء المتدرج، مستهيناً بكفَاءة وحكمة مَنْ سبقُوه، فإذا حيل بينه وبين ذلك لعلة نظامية، غشَتْه رِدّة نفسيةٌ ضد كل شيء، وأخذ يكيل اللوم يمنةً ويسرةً متجاوزاً نفسَه إلى غيره!
وللحديث صلة.