الرثاء هو استجابة الطباع الإنسانية لمأساة تتفجر في فؤاد وقلب وباطن الراثي فتملأ مشاعره وأحاسيسه ووجدانه وخلجات نفسه ألماً وحسرة وحزناً ولوعة وأسى، ثم ما تلبث هذه الإشعاعات الوجدانية النفسية المحسوسة أن تنتقل من مرحلة الباطن إلى الظاهر ومن اللا وعي إلى الوعي فيترجمها صاحب الرثاء إلى لغة حزينة مؤثرة مبكية تفطر القلوب، وتذرف العيون، وتروي كتب التراث الأدبية، مثل كتاب مفيد وهو: (العقد الفريد) لابن عبد ربه (رحمه الله تعالى) عن الأصمعي قوله: قلت لأعرابي: ما بال المراثي أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وقلوبنا محترقة. |
وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم لبليغ ولا لفصيح قولاً أفصح وأبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم حين أصيب في ابنه إبراهيم فقال: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون). |
وقد عبّر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف ببيان صادق، ومشاعر وأحاسيس صادقة عن فقد روّع هذا النبي العظيم المكلوم، وعن هذا الثكل الذي أهاج عاطفة الأب الملتاع، ولقد صادفت هذه الآلام النفسية المستعرة في قلبه صلى الله عليه وسلم حزناً على فلذة كبده إبراهيم عليه من الله تعالى شآبيب الرحمة والغفران حسّاً نبوياً مرهفاً، وإلهاماً إلهياً متدفقاً، وقدرة بلاغية بيانية على التعبير لا تنقصها الألفاظ المعجزة، ولا تفتُ في عضدها المعاني المؤثرة، ويقوم الرثاء على ميزان دقيق حساس وهو صدق العاطفة وعلامة ذلك تأثير الرثاء شعراً كان أو نثراً في قلوب الناس، وقلوب الناس مرآة صقيلة لا تعكس الأشعة المصورة إلا متى ما كانت شفافة مرهفة نابعة من عروق القلب لتصب في غيره، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها، ولأمر تمركز في القلب وصدقته المشاعر وانعكس على الألفاظ تسنمت الخنساء عرش المرأة في الظاهرة الشعرية الرثائية ومن مؤثر قولها ومبكيه: |
وما عجولٌ على بو تُطيف به |
لها حنينان إعلان وإسرارُ |
ترتعُ ما رتعت حتى إذا ادّكرت |
فإنما هي إقبال وإدبار |
يوماً بأوجد منّي يوم فارقني |
صخر وللدهر إخلاءٌ وإمرارُ |
وقد كفانا معالي الوزير الدكتور الأديب عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر (حفظه الله وحماه) مؤونة الحديث في كتاب يحمل تسمية جميلة وهي (دمعة حَرّى) وطبعته الأولى في مدينة الرياض العامرة عام 1425هـ - 2004م من إنتاج مطبعة سفير، وقد يتبادر إلى ذهنك أيها القارئ الكريم أن معنى كلمة (حَرّى) - حارة - ولكن معناها كما ورد في مختار الصحاح للرازي، بيروت عام 1989م/ 1999م، مكتبة لبنان ما نصه ((حرّى) أن يفعل كذا أي جدير وخليق، وفلان (يتحرّى) كذا أي يتوخاه ويقصدُهُ)، واستهل وزيرنا الأديب مؤلفه بمقدمة تصويرية للإنسان حينما ينزل عليه خبر مفاجئ بموت عزيز غال، وجاءت هذه الصورة دقيقة واضحة كأنما اُلتقطت بشكل فوتغرافي مقنن حديث، وفي خاتمة المقدمة ونهاية مطافها أوضح المؤلف منهجية وماهية الكتاب فقال: (فيما سوف يأتي في الوريقات اللاحقة حالات من تلك الحالات، وصور صادقة من تلك الصور، هي آهات، ودموع، وعبرات متكسرة في الصدور)، وسبب تأليف الكتاب ما جاء تحت باب: (شنين الدموع) والشنين: قطرات الماء، (هذا قول أقدّمه أمام كلمات قلتها في الصحف رثاءً في أناس أعزاء على نفسي وعلى كثير من الناس غيري، ورأيت جمعها في مضمومة واحدة، علّ من قرأها يترحم عليهم، فتوافق دعوته باباً مفتوحاً للقبول، فيكسب الداعي والمدعوُّ له، أجراً، وأكسب أنا من وراء ذلك ثواباً، والذي زاد تصميمي أنني بحثتُ يوماً عن رثاء رثيت به عزيزاً فلم أجده إلا بعد عناء)، ثم قدم المؤلف لمراثيه النثرية بمقدمة زاهية يانعة مستقاة من كتاب (العقد الفريد) وقد عشق المؤلف هذا الكتاب، وبادله الحب والصبابة وفي ذلك يقول: (ويغريني جمال الأبيات التي يوردها صاحب العقد الفريد، فكلما قلت أختصر، وأكتفي بنماذج مدت هذه المواقف المحزنة، والأبيات المعبرة أعناقها، وكأنها تحتج على نية تركها، وما درت أن النفس معها، وليعذرني القارئ، ويعذرها، إذا نحن أثقلنا عليه بوضعها أمامه، فما أراد قراءته منها فليقرأه، وما أراد أن يتجنبه منها فله الحق في ذلك، خاصة أنها في باب الحزن، وليست في باب من أبواب الفرح والمرح). |
وللمؤلف وقفات نقدية بليغة جداً حول الأبيات الشعرية الرثائية التي يسوقها للقارئ ليتذوقها معه ومن هذه الوقفات النقدية الذوقية: |
- (هناك الأبيات المشهورة المنسوبة لأبي نواس، وقيل إنها وجدت مكتوبة في ورقة تحت فراش موته، وهو من اشتهر بمآخذ كانت تزيد مع مرور الزمن حتى بعد وفاته، فاختلط ما قد يكون حقيقة بما هو مركب، فأبو نواس مثل جحا صار مطيّة للنحل، ومشجباً تعلق عليه مفتريات الكذب عن الفسق والفجور، والله أعلم بالظواهر والبواطن، وهو الغفور الرحيم: |
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة |
فلقد علمتُ بأن عفوك أعظمُ |
إن كان لا يرجوك إلا محسن |
فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
أدعوك ربِّ كما أمرت تضرعاً |
فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ |
ما لي إليك وسيلة إلاّ الرجا |
وجميل عفوك ثم أني مسلمُ) |
- (ومن أشهر قصائد الرثاء قصيدة أبي ذؤيب الهذلي يرثي فيها أولاده السبعة، وقد ماتوا كلهم إلا واحداً: |
أمن المنون وريبها نتوجع |
والدهر ليس بمعتب من يجزع |
قالت أميمة ما لجسمك ناحلاً |
منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع |
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعاً |
إلا أقض عليك ذاك المضجع |
ولقد حرصت بأن أدافع عنهمُ |
وإذا المنية أقبلت لا تدفع |
وإذا المنية أنشبت أظفارها |
ألفيت كل تميمة لا تنفع |
وهذه القصيدة من أبلغ قصائد الرثاء، وبعض أبياتها أصبح مثلاً على ألسنة الناس أو بعض أشطر الأبيات مثل: |
وإذا المنية أنشبت أظفارها |
ألفيت كل تميمة لا تنفع |
فالصورة التي رسمها مخيفة، فالميتة كأنها وحش له أظفار كأنها الكلاليب، انقضّت على جسم غض، والصياغة متقنة، والبيت يهزّ السامع والقارئ. |
والبيت الثاني على ألسنة الناس دائماً في مثل هذا الموقف: |
وتجلدي للشامتين أريهم |
أني لريب الدهر لا أتضعضعُ |
بيت متقن، وغريب أن يشمت قوم مهما كانوا أعداءً برجل فقد سبعة أولاد متتابعي الميتة ولكن الشر قد يتعدى حدود ما هو معقول والخير كذلك، وكما يقول المثل العامي (لا فرق بين الردى والجود) والخيَّر من وفقه الله، والشرير من غلبه الشيطان). |
هذا ورثى الوزير الأديب ثلاثة عشر رجلاً من شهود عصره، ورجالات زمانه، وهو رثاء دال على صدق وفائه، وأصالة معدنه، وهم على التوالي: المفكر الصحفي الرائد (عبدالمجيد شبكبي)، والأديب الرائد (عزيز ضياء)، ومعالي الشيخ (حسن بن عبدالله آل الشيخ)، والعالم الشيخ (صالح بن غصون)، والشيخ (صالح بن علي بن غصون)، والصديق الحميم (معتوق جاوه)، والشيخ الجليل علاّمة الجزيرة (حمد الجاسر)، وأستاذ المؤلف ومعلمه (محمد حلمي)، وابن الصحافة البار الأستاذ (حسن قزاز) والأمير الراحل المبجل (فهد بن سلمان)، والأمير الكريم (ماجد بن عبدالعزيز) والأمير (أحمد بن سلمان)، والصديق العزيز (مصطفى مير)، رحمهم الله تعالى جميعاً وغفر لهم، وجعل قبورهم عليهم روضة من رياض الجنة، وأسكنهم فسيح جناته وجنانه، وغفر الله للأديب الخويطر فقد خلدهم بكلمات شجية مؤثرة تنم عن حساسية نفسية، وشفافية قلبية، وفي بعض مراثيه يذكر من طباع المرثي أهمها وأقواها تأثيراً وموقعاً في النفس، وعناوين المراثي لا تقل في وقعها في الشعور عن مضامينها ومنها: (نجم أفل، وحبيب ترك)، و(ترجّل الفارس)، و(فلتدمع عين الصحافة) و(قصور التعبير). |
والكتاب فكرته في جمع المراثي الرثائية النثرية جديدة الطرح، حديثة التناول، إلا أني رأيت مراثيه خالية من التمثيل الشعري غير مرثية واحدة هي مرثية صديقه الحميم (معتوق جاوه) والبيت الشعري هو: |
والموت نقاد على كفه |
دراهم يختار منها الجياد |
ولعلّ السبب يعود إلى الصورة التي رسمها الأديب الخويطر للإنسان حينما ينزل عليه خبر الموت كالصاعقة، فليس المقام مقام ترنم شعري، ولا هزج رجزي، بل المقام أكبر من ذلك والخطب أعظم من هذا، والخويطر من أرحم الناس وأرقهم عاطفة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي لمس منه خصلة الجفاء والجفاف: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء). |
وفي الختام كنت أتمنى أن يطيل المؤلف في مقدمته الممتعة الشيقة لهذا الكتاب حتى لو احتلت المقدمة جزءاً بأكمله، وكم تمنيت لو أن المؤلف الأديب المتذوق لم يقتصر على كتاب ابن عبدربه (العقد الفريد) وضم إليه درراً وجواهر ازدانت بها كتب التراث الأخرى، والأديب الأريب الخويطر هو الجهبذ الخبير فيها، وما أدراك ما الخويطر؟ حتى تعود إلى مؤلفات عقله، وبنات فكره، وعلَّ أديبنا أن يقتنع بالفكرة فيروي عطشنا الصادي باختياراته الشافية، وتعليقاته الوافية، حفظ الله الوزير الأديب الأريب برجاً في الأدب عاجياً، وراية في النقد باسقة. |
لتفننت في الكتابة حتى |
عطّل الناسُ فنَ عبدالمجيد |
في نظام البلاغة ما شك |
امرؤ أنه نظام فريد |
ومعان لو فصلتها القوافي |
هجنت شعر جرول ولبيد |
عنوان المراسلة: |
ص. ب (54753) الرياض (11524) فاكس 2177739 |
|