قراءة التاريخ معين ثر ومورد عذب للفضائل، وحفز للهمم، وتنبيه من الغفلة، وإذكاء للعزيمة، وبعث لمجد، وتذكير بريادة وقيادة
والوثائق التاريخية هي البيئات القوية على كل دعوى صادقة، والمستند الموثوق لكل ادعاء جاد.. هذا ما عرفه البشر على مر العصور وقويت به حججهم واستنارت به مجالسهم وعلومهم.
ولكنني وجدت للوثائق التاريخية قيماً عليا غير ما ذكر، وحينما بدأت علاقتي - القريبة- بالوثائق التاريخية وجدت فيها قيما تربوية نفيسة جدير بالآباء والمربين أن ينهلوا منها، ويرووا منها ظمأ الأجيال.. فالوثيقة التاريخية تصور الماضي بما فيه من حالات: مادية ومعنوية وثقافية وسلوكية، وحينما يقرؤها الجيل اللاحق تربطهم بمن سبقهم وتذكرهم بما كانوا عليه ليعرفوا الفارق بين العصرين، وليتبين لهم مقدار نعم الله عليهم وفضله وكرمه فيما جدّ وتهيأ من أرزاق وأموال.. ويتبين لهم ما تهيأ من أمن بعد خوف وسعة بعد ضيق وفرج بعد شدة وعلم بعد جهل وانتصار بعد هزيمة.
ولكي أعطي الشواهد على ذلك سأقف مع بعض الوثائق المخطوطة وقفات تأمل وعبرة، أمل أن يكون فيها زاداً لمن يسيرون في طرق الحياة وعبرة لمن يكابدون أحداثها.
الوثيقة الأولى كتبت قبل أكثر من مائة وعشرين سنة، وقد أوردها صاحب كتاب علماء وقضاة حوطة بني تميم والحريق وقراهما، ج1. ص447. ط1، عام 1429هـ. وفيها صورة صادقة ووصف دقيق لواقع الحال الذي كان عليه الناس في ذلك الزمان وذلك المكان.. ونص الوثيقة هو (بسم الله الرحمن الرحيم مضمونه بان الامير عبدالله بن حسين بن هلال باع جميع الثبار ملك براهيم بن حمد علي براهيم بن الشيخ محمد بن عجلان واخيه سليمان باثنا عشر ريال، يحل في الصفري آخر سنة ثنتين وثلاثماية وألف أربعة اريل، ويحل أول سنة أربعة اريل وأربعة اريل في أول سنة خمس، والمبيع المذكور بما له من الحقوق من ماء وطريق وسيل داخل في المبيع المريطة إلي في النخيلات وفيه تسعة أصواع منصوفة لمام مسجد الجامع ثلاثة وصوامه ثلاثة وعلى مسجد الطوالع الاسفل ثلاثة.. وشهد به كاتبه محمد بن زيد بن جساس مصليا مسلما على محمد وآله وصحبه وسلم، حرر في غرة شعبان 1302 هجرية).
وفي هذه الوثيقة مواقف عبرة ودلائل إنسانية عليا كان عليها أولئك السلف، أولى دلالات الوثيقة أن الأمير الذي كانوا يختارونه ويصطلحون عليه -وهو أهل لما اختير له- كان يتولى الحكم بينهم والصلح وعقد البيع وبخاصة أملاك من توفي، ثم تأتي العبرة الثانية وهي القيمة وقد بلغت -كما هو مثبت هنا- اثني عشر ريالاً!! والريال المقصود فيما يظهر لنا هو ما يسمى (الريال الفرنسي) وهو عملة معدنية كانت موجودة في الجزيرة العربية قبل حكم الملك عبدالعزيز وفي بداية حكمه، وشكلها مدور وقد سكت في النمسا وتسمى الدولار، ولكن أهل الجزيرة يسمونه (الريال).. وقد بقي مستعملاً حتى عام 1346هـ حينما أصدرت المملكة أو ريال فضي ثم أصدرت في عام 1354هـ الريال الورقي.. أما الريال المقصود في الوثيقة التي بين أيدينا فهو (الفرنسي) كما كانوا يسمونه. ولأن المبلغ الذي حدد للبيع كان كثيراً لا يمكن دفعه كله في مرة واحدة لقلة الموارد وشحها فقد قسم على أقساط. الأول يحل موعده في (الصفري) وهذا اسم لفصل من فصول السنة المناخية وهو في الصيف وعدد القسط أربعة أريل، والثاني بعد عام كامل حيث كان الأول آخر سنة 1302هـ والثاني يكون في بداية سنة 1304هـ وعدده أربعة أريل والثالث في بداية سنة 1305هـ وعدده أربعة أريل.. وكما يملكنا العجب حينما نرى أن ما هو مطلوب في عام كامل هو أربعة ريالات فقط، فكم كانت الحياة صعبة وشاقة، والذي أجزم به هو أن تلك العملة كانت تستعمل في الأمور الكبيرة كالزواج وكانت تكاليفه لا تزيد على ريالين أو ثلاثة وشراء الأملاك من دور ومزارع وغيرها. أما بقية مطالب الحياة من لبس وغذاء فإنها تُشترى بطريق المبادلة فهو يشترون سلعة بأخرى فيشتري مثلاً قمحاً بقدر من التمر، ويشتري خروفاً بقدر من القمح وثوباً بقدر آخر وهكذا.
ثم إن هذا الملك المباع فيه وقف يسمونه (صبرة)، وهم يريدون بذلك الانتفاع بأصله ودخله ليكون حراً لمالكه وورثته ولا يحرمون أنفسهم أجر الوقف، حيث يلزم من يقوم على هذا الملك ويدير شؤونه أن يدفع في كل عام تسعة أصواع -والصاع كما هو معروف مكيال للحبوب والثمار- وتلك الأصواع التسعة حق ثابت لمن سمي له، وقد قسمتها الوثيقة على ثلاثة مصارف: ثلاثة لإمام مسجد الجامع لأنه لا دخل له ولا مرتب من أحد وهي عون له على أداء عمله من إمامة وفتوى وتدريس قرآن وغيرها.. وثلاثة للصوام.. وفي هذا نموذج مثالي للتكافل، فإن الفقراء في رمضان لا يجدون ما يأكلون فيتقدم أهل البر ويتنافسون في توفير البر والتمر وغيرهما لأولئك الصوام حسب أماكن صلاتهم.. أما الأصواع الثلاثة الباقية من البر فهي للصوام في مسجد آخر هو مسجد الطوالع.. وهنا وقفة أخرى، وهي وقفة عند ذلك المقدار من البر وهو ثلاثة أصواع -ولعل الأفصح هنا أن يقال: أصْوُع، فإن الوصية (الوقف) نصّ على ثلاثة أصوع لصوام المسجد الجامع فكم ستكفي هذه الكمية القليلة ولمدة شهر كامل؟! والذي نحسبه هنا أن الله تعالى يبارك لهم ومن لطفه أن ينزل البركة في القليل حتى ينفع عدداً كثيراً من الناس.
وآخر ما نلحظه في هذه الوثيقة هو في خطها فقد كتبت بخط مقروء واضح والملاحظات الإملائية فيها قليلة، أبرزها: عدم وجود رأس الهمزة في مثل (الأمير) (أول) وغيرها، وعدم وجود التنوين وألفه في مثل: (اثنا عشر ريال) والصواب هنا (ريالاً) والصواب أيضاً أن يقول (باثني) وليس (باثنا عشر)!!، وترك علامة المد في (آخر)، وكلمة (ثلاثماية) والأصوب (ثلاثمائة).. ودخول اللفظ العامي (الي) بمعنى (الذي)، وآخر الملحوظات أنهم ومن براءتهم وطيب قلوبهم ووضوحهم لم يكونوا يذكرون حدوداً وأطوالاً.. وذلك على ما يظهر لنا اعتماداً على العرف.. فمزرعة فلان معروفة عند المجاورين له، ولا يمكن لأحد أن يعتدي على شبر من أرض جاره ولو فعل كان ردّه سهلاً بشهادة الشهود والتحاكم إلى العقل والأخلاق النبيلة.. رحمهم الله وغفر لهم.
والوثيقة الثانية التي بين يدي هي من أوراق أجدادي التي وصلت إليّ فوجدت فيها كنزاً معنوياً غالياً.. وعمر هذه الوثيقة أربع وتسعون سنة، وهي لا تسجل أحداثاً وتاريخاً بقدر ما تفصح عن قيم وتصور أحوال لدى أسلافنا ونص الوثيقة هو (بسم الله الرحمن الرحيم مضمونه هو أن علي ابن حسين آل عسكر أوقف الأرض المعروفة في ملكه تصير غلتها معا فيها من نخل وأثل لعمارة المدي ولمن جعل الماء فيه يجد الأرض المذكورة قبلة الأثلة ولم تدخل في الوقف وشمالاً السوق العابر وشرقاً السوق وجنوباً نخل سليمان واسبال آل فهد ابن هليل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ربيع 3- 1336) وحجم الورقة التي كتبت فيها هذه الوثيقة 14?9.5سم ولون الورق هو الأصفر والكتابة باللون البني. وليس في الوثيقة رأس الهمزة في همزات القطع مثل (أوقف والأرض وإن وغيرها) وأقلام الوثيقة هم (علي ابن حسين آل عسكر وهو أخو جدي الثالث أحمد بن حسين وقد تحول ملكه وأوقافه إلى جدي القريب لأنه آخر ذريته، ومكان هذه الأرض في بلدة (العذار) في الدلم بمحافظة الخرج التابعة إدارياً لمنطقة الرياض، والكاتب هو الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن هليل وكان وقتها شاباً من جيران أجدادي وكان مبصراً حينما كتب الوثيقة ثم تعلم وتولى القضاء فترة طويلة من الزمن وكف بصره وتوفي بتاريخ 13- 11-1421هـ، رحمه الله، أما أهم العبر المستفادة من الوثيقة فهي:
1- أن عند أجدادنا مبدأ تكافل اجتماعي لا نظير له، ويأتي في قمة ذلك التكافل توفير المأكل والمشرب ودعم يوفرها من الناس.
2- في أولئك القوم طيب قلوب وبراءة لا وجود لها اليوم ودليل ذلك هو: الحدود فهي عندهم (الأمثلة) و(السوق ويقصد به طريق مشاة لا يزيد عرضه عن مترتين) و(نخل)، فهل كان في ظنهم أن تبقى الأثلة والنخل وتكون معالم ثابتة؟ ثم كلمة (السوق) لم يفسروها اعتماداً على العرف والقرائن المجاورة!! ومن علامات طيب قلوبهم ذكر أسماء مجهولة -إلا عندهم- فمثلاً: (سليمان) رجل مجهول لم يتفق على اسمه رغم وجود وقف له وتولى إحدى العوائل القيام على الوقف اعتماداً على أنه منهم!
3- لا أدري ما الذي كان يدور في أذهانهم عن المستقبل: (ف(المدي) هو مورد ماء بني من الطين وجعلت غلة هذا الوقف الصغير لمن يقوم بعمارته وصيانته وملئه بالماء.. وكان الماء لا مصدر له إلا الآبار التي تحفر بالأيدي والفؤوس ويستخرج الماء منها بالدلو.. والمدي ماء سبيل للشرب وسقي البهائم والوضوء.. فماذا يكون مصير الوقف بعد مجيء شبكات المياه التي تصل إلى كل بيت ومزرعة لا أدري رحمهم الله وغفر لهم.
4- لم يكونوا يعرفون أو كانوا لا يحرصون على الأطوال والمسافات فليس في الوثيقة أي طول محدد بالذراع أو الباع -وهي مقاييس الطول عندهم- وما ذلك إلا دليل آخر على براءتهم وبساطتهم وطيب قلوبهم وليتهم يعرفون حجم القضايا التي تدور اليوم في المحاكم، وأكبر أسبابها اختلاف الأطوال والحدود وتنكر بعضهم لبعض!
5- وأخيراً: أجزم أن سبب تعيين هذا الوقف والكتابة عليه بهذه الوثيقة الطمع في الأجر والحرص عليه، فمع فقرهم الشديد وضيق حالهم وشظف عيشهم إلا أنهم كانوا حريصين على إطعام الطعام ونفع الناس وتيسير سبل الخير والطاعة لهم في وقت لم تكن هناك جهات تتولى القيام على مصالح الناس وتوفير سبل العيش لهم.. فهل نعي ذلك اليوم ونحن ولله الحمد نملك أضعاف ما كانوا يملكون وفي الأرض اليوم بلدان كثيرة يعيشون في فقر أسوأ مما كان فيه أجدادنا.. ونحن في أمس الحاجة إلى رحمة الله ومغفرته وثوابه.. آمل ذلك ولي وقفات أخرى مع وثائق أخرى مستقبلاً بإذن الله تعالى، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
عبدالعزيز بن صالح العسكر
عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية
al-delm190@maktoob.com