- في أسبوع واحد على وجه التقريب، قرأت أكثر من تقرير إخباري، فوجدت أنها كلها تأتي من مهب واحد، وتصب في مصب واحد.
- الأمير (نايف بن عبدالعزيز)، وزير الداخلية، يذكر في تصريح صحافي منشور، أن رجال الأمن البواسل، أحبطوا أكثر من (180) عملية إرهابية..
.. شرّع لها وخطط ودبر، عناصر من المارقين الخوارج، المحسوبين على منظمة القاعدة الإرهابية، وكانت تستهدف الأرواح والممتلكات في البلاد.
- لجان المناصحة، تبدأ في تنفيذ برامج (توعوية) في ثلاث محافظات في وقت واحد. في شرورة وتربة والزلفي، وتلتقي مئات الخطباء والأئمة والمؤذنين، ومديري الدوائر والمدارس والطلاب وغيرهم.
- صور لقاءات محافظة الزلفي، التي استمرت عدة أيام، كانت الأبرز إعلامياً، وعناوين المحاضرات وما دار من نقاشات فيها، كان لافتاً ومطمئناً إلى حد بعيد.
- أحمد الجبر، مواطن سعودي من محافظة الزلفي، ظهرت صورته وهو على سرير المرض بين الحياة والموت، فقد كان منذ أربع سنين وما زال، يتنفس ويتغذى بطريقة صناعية، والسبب يعود إلى ضبط واحد من أبنائه مع (14) شاباً من معتنقي الفكر المتشدد في استراحة، ساعتها.. فقد الأب المكلوم وعيه وذاكرته، واضطربت دورته الدموية..!
- مقتل سعوديين في محافظة صلاح الدين في العراق، وكلام عن شاب سعودي غادر إلى هذا البلد المبتلى من قوات الاحتلال وأذناب القاعدة معاً. الشاب غادر عبر سورية منذ أربع سنوات، لكن الملفت في الأمر ما قاله والده، فالابن الذي لم يكن يملك شيئاً يذكر، وُجِد في حسابه (46) ألف ريال فقط..؟!
- وجاء في الأخبار كذلك، أن لجان المناصحة التابعة لوزارة الداخلية، أخضعت جميع الموقوفين على خلفية الفكر الإرهابي التكفيري، لدورات علمية في فصول دراسية أنشئت لهذا الغرض، تدور مناهجها حول الشبهات التي يعاني منها الشباب، مثل: (التكفير، والولاء والبراء، وضوابط الجهاد، والبيعة والطاعة لولي الأمر، والموالاة، وإخراج المشركين من جزيرة العرب)، وذلك بمناهج توضح شبهات الفكر الضال وتدحضها، واحتاج الأمر أكثر من (300) جلسة، قادها أكثر من (140) متخصصاً في هذا المجال.
- نحن إذن في بداية معركة فكرية مستحقة منذ سنوات، لكنها بدأت أخيراً وسط كم هائل من نتائج مفجعة. هناك عمليات إرهابية نفذت وأخرى تم إحباطها، وهناك تنفير لعدد غير قليل من شباب هذا البلد الطيب، جرى دفعهم لكي يَقتلوا ويُقتلوا خارج حدود الوطن، بدعاوى الجهاد، ووعود الحور العين، وهناك مقاومة وممانعة، ضد مشروعات الإصلاح والتجديد، سواء في التعليم ومناهجه، أو في جانب الخطاب الديني تحديداً. هناك كذلك، ما لا نعلمه، مما يخبئه المستقبل، ولا يدري به سوى الله جل جلاله.
- معركتنا الفكرية مع هذه المشكلة الكبيرة، ينبغي أن تتجه مباشرة إلى أسباب المشكلة ذاتها. كل نتيجة نتعاطى معها اليوم في إطار الإرهاب، مردها في الأساس، التشدد الديني، والغلو الذي خيم على عقلياتنا ردحاً من الزمن، حتى أصبحنا أسرى لثقافة تعادي الحوار، وتخاصم كل طرف لا يتفق مع طرحها ومنهجها.
- كثير من المؤشرات اليوم، تقود إلى قناعة راسخة لدى القيادة السعودية وشعبها، في ضرورة معالجة جذور المشكل التي هي بمثابة الأسباب المؤدية إلى النتائج الحالية. إن قمة نجاح كافة الجهود في هذا الميدان، تتمثل في المصالحة الوطنية.. أعني أولئك المواطنين الذين خلقوا لهم خصومة مع وطنهم ودولتهم. الذين انساقوا ذات يوم خلف أفكار هدامة، فأجرموا في حق وطنهم ودولتهم، ففجروا أو قتلوا أو خربوا أو دعموا وساندوا ومولوا، أو شاركوا في أعمال كهذه خارج الحدود. هؤلاء وأمثالهم، يجب أن يحاكموا، فينالوا جزاءهم، لكي يعودوا إلى الله ويتطهروا، فيباشروا المصالحة مع الوطن الذي خرجوا عليه بدون ذنب، أما الذين تأثروا بخطاب المتشددين والمغالين، لكنهم بقوا خارج دائرة الجريمة، فهم مدعوون للتوبة والأوبة في إطار برنامج المناصحة، وتحقيق المصالحة الصادقة مع وطنهم.
- الأمر المطمئن في هذا السياق، والذي انطلق من محافظة الزلفي، ما أفاد به مدير التوجيه والتوعية في وزارة الداخلية، وعضو لجنة المناصحة الدكتور علي النفيسة، من أن الموقوفين الذين ليست لهم علاقة مباشرة بالقتل والإرهاب، مثل (التحريض والتشويش والإيواء واتباع الفكر الضال)، هم الذين يخضعون للمناصحة، حتى يتم الإفراج عنهم، أما الإرهابيون الذين قاموا بعمليات إرهابية، وتسببوا بقتل بعض الأبرياء، فستتم محاكمتهم.
- جميل أن نشهد هذا النقاش المفتوح في محافظة الزلفي، وفي بقية محافظات التراب الوطني فيما بعد. إنه حوار آخر بنكهة أخرى تنسجم إلى حد ما، مع نقاشات الحوار الوطني الدائر في أرجاء الوطن منذ خمس سنوات. المصارحة ثم المناصحة، سلوك حضاري مؤداه مصالحة حقيقية حتماً، نتمنى أن تكتمل صورتها في القريب العاجل إن شاء الله.
- لقد أفرزت نقاشات (المصارحة والمناصحة)، التي شهدتها محافظة الزلفي مؤخراً، جملة من المعطيات منها: حضور صوت طرف مهم في صورة المشهد الإرهابي، ظل حتى اليوم غير حاضر. إنهم أولئك الآباء والأمهات والأسر، الذين فجعوا في أبنائهم، حين فوجئوا بهم قتلة أو مقتولين في غبار معركة الإرهاب، أو أصبحوا دمى يحركها الأوغاد في العراق وفي نهر البارد، وفي مناطق أخرى من هذا العالم، تنتظر لحظة تفجيرها، لتموت هناك بالمجان. هؤلاء المواطنين المكلومين، هم حقاً من ينبغي سماعهم قبل غيرهم. أن تجربتهم عظيمة ومفيدة، ولكن حقوقهم يجب أن تحفظ، وبخاصة أن من تسبب في بلائهم وشقائهم، يرفل أمام أعينهم في نعيم مقيم، فهو على استعداد تام لتكرار التجربة مع من بقي من أبنائهم، أو أبناء غيرهم من الأسر.
- تقول إحصائية حديثة صادرة من أوساط مجتمع الزلفي، أن هناك أكثر من مائة أسرة في الزلفي وحدها، فقدت كل منها، شاباً أو أكثر من بينها. أكثر من مائة شاب من محافظة واحدة، طمرهم طوفان الإرهاب، على أيدي متشددين ومكفرين ومضللين، ما زالوا يأكلون الطعام، ويشربون الشراب، ويتزوجون النساء، ويمشون مع الناس في الأسواق..! فهل تصل يد العدالة إلى هؤلاء المنعمين المترفين..؟
- عندما قرأت هذه الإحصائية عن محافظة الزلفي، تذكرت وقفة الشيخ (بكر بن عبدالله البكر)، أمام الملك المظفر (عبدالله بن عبدالعزيز)، في وفد الزلفي لتهنئة الملك المفدى ومبايعته عام 1427هـ. يومها قال بالحرف: (...إن الأسى يتضاعف، والحزن يتجدد، حينما تورط نزر من أبناء مسقط رأسنا بتلك الأفعال الماجنة، والتصرفات الهوجاء). هذه هي الشفافية التي نادى بها الملك المصلح المجدد (عبدالله بن عبدالعزيز) منذ عدة سنوات، يترجمها ابن بار من أبناء الزلفي، ومواطن شجاع لا يستحي من الحق، ويعترف بالحقيقة. إنهم نزر يسير حقاً إذا بلغ عددهم المائة شاب من بين أكثر من خمسة وستين ألف مواطن، في واحدة من محافظات منطقة الرياض الكبيرة، فماذا إذن عن محافظات أخر، عدد سكان الواحدة منها بمئات الألوف..؟!
- لو ظهر في كل محافظة من المحافظات المائة والثلاث، مواطن آخر صريح وشفاف مثل الشيخ (بكر الزلفي)، لوجدنا محافظة الزلفي، في ذيل قائمة المحافظات المنكوبة بداء التكفير والتنفير إلى البؤر المتأزمة حولنا.. ربما.
assahm@maktoob.com